لقد مرّت سنة كاملة منذ أن سمع الأطفال الذين شملتهم الدراسة الأغاني في المرة الأخيرة. قبل ذلك، سمعوا الأغاني مراراً وتكراراً خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة عندما كانوا في أحشاء أمهاتهم.
اختارت كل امرأة قطعة موسيقية معينة لتعزفها لطفلها تتراوح بين الموسيقى الكلاسيكية، موسيقى الراغي، والبوب. ولكن الأطفال لم يسمعوا الأغاني مجدداً إلا عند حلول عيد ميلادهم الأول. تعرّف كل الأطفال إلى أغانيهم المميزة وفضلوها على الأغاني المماثلة ذات الأسلوب نفسه. توجه معظم الأطفال نحو أمهاتهم عندما وُضعت الأغاني. ربما ظنوا أنها “أغنيتهم الخاصة”.
هل تسمعني طفلتي غير المولودة حقاً عندما أكلمها؟
هل صحيح أنه عليّ التكلّم مع طفلتي قبل ولادتها؟
هل تؤذي الموسيقى الصاخبة طفلي؟
تشكّل التجارب المشتركة الأولى جزءاً من الرابطة العاطفية. علمنا لبعض الوقت أن الأطفال يسمعون العالم حولهم قبل ولادتهم. وعلمنا أنهم يحملون هذه الذكرى بعد تجربة الوضع. إنّ الدراسة التي أجريت عام 2001 مثيرة للاهتمام لأنها المرة الأولى التي يظهر فيها أن هذه الذكريات تدوم أكثر من شهرين. يبدو أن الأذواق، الأصوات، الروائح، المشاهد ولحظات الهزّ أو المداعبة في الأيام الأولى كلها تتوانى كثيراً.
إبقاء هاتين العينين والأذنين مفتوحين
تبدأ المرحلة السريعة من نمو الدماغ قرابة الأسبوع الرابع والعشرين بعد الحمل. وسيتسارع نموه طيلة فترة الحمل وخلال السنتين أو السنوات الثلاث الأولى من حياة طفلك فيما يتعلم الحبو على الأرض، والسير في أنحاء الغرفة، وتكلم لغة معقدة وفهمها. تتشكل روابط عصبية جديدة باستمرار ويتجعد الدماغ فيما يكبر حجمه مكوّناً المزيد من المساحة.
النخاعين Myelin هو اسم المادة البيضاء في الدماغ التي تعزل الخلايا العصبية وتسمح بنقل الأفكار بسرعة. يظهر النخاعين للمرة الأولى وبشكل مثير للاهتمام في أجزاء الدماغ الحسية ومنها ينتشر. لماذا؟
ذات مرة، خضعت لاختبار الاسترخاء في حوض تعويم للتجريد الحسي. مع انعدام الرؤية، والصوت، وفقدان حاسة الذوق، أو الشم، زال كل توتري فيما أطفو بلا وزن وما من شيء يمكن لمسه إلا الماء. يتصور الكثيرون الحياة في الرحم مثل هذا الحوض. في الواقع، إنّ الرحم مركز فاعل للتعلم حيث تصل الدروس باستمرار لتثقيف كل الحواس. يذكرني ذلك بالمركبة الفضائية الشبيهة بالشرنقة حيث ينطلق فيها الصبي من كريبتون إلى الأرض في الفيلم الأول لسوبرمان مع النجم كريستوفر ريف.
في المرحلة الأولى من حياة الجنين، يطفو هذا الأخير بحرّية تامة، ولكن الآن المجال يضيق. تنثني الساقان في وضعية جنينية. ويستكشف الطفل بأطراف أصابعه وأصابع قدمه محيط عالمه الصغير. إنّ الروائح والأذواق التي تختبرينها تزيّن عالمه. كما أن النور والصوت في عالمك يضيئان عالمه ويغذيانه. إنْ شممت رائحة الدخان، سيشتم رائحة الدخان أيضاً.
مع حلول الأسبوع الرابع والعشرين بعد الحمل، يواجه الطفل نوراً ينعكس على بطن الأم مع أن جفنيه ما زالا مغمضين. كما أنه سيسمع الأصوات المثيرة للاهتمام في الغرفة على الرغم من وجود سدادات صغيرة طبيعية في القنوات الأذنية لحماية أذنية. إنّ المشاهد والأصوات الأولى خفيفة جداً كي لا تتعارض الحواس النامية مع الأحاسيس الأولى.
بحلول الأسبوع السادس والعشرين بعد الحمل، يفتح طفلك عينيه، ويبدأ بدراسة العالم من حوله. تسقط سدادات الأذن الطبيعية من أذنيه وها هو الآن يصغي بحزم إلى ما تقولينه وتسمعينه. إنه يصغي، ويتعلم، ويتذكر.
الأضواء المشتعلة
يروي الدكتور ت. باري برايزلتون، أحد الرواد العظماء في تعلّم فهم الأطفال، قصة مثيرة للاهتمام حدثت عندما كان وزملاؤه يقومون بدراسة ردّ فعل الأطفال تجاه الضوء قبل ولادتهم. استعانت الدراسة بالتصوير الفائق الصوت Ultrasound لمراقبة ردّ فعل الأطفال غير المولودين تجاه الضوء. أولاً، حدد الباحثون الجهة التي يقابلها كل طفل. ثم أناروا ضوءاً ساطعاً نحو بطن الأم عند زاوية بحيث ينعكس الضوء مباشرة على عيني الطفل لو لم يكن هناك رحماً وبطناً. في المرات القليلة الأولى، جفل كل طفل بوضوح. ولكن بعد محاولات عدة، لم يعد الأطفال يتفاجأون بل كانوا يضعون أيديهم على وجوههم لحجب أعينهم عن الضوء الساطع ويبعدون وجوههم بهدوء. لقد تعرفوا على هذا الضوء واكتشفوا ما يجب فعله. لم يعودوا مكترثين.
من ثم، وجه الفريق ضوءاً بارزاً إلى مكان آخر على بطن الأم. كلما سطع النور، كان الطفل يستدير ببطء تجاه مكان نفاذ الضوء إلى الرحم لمعرفة ما الذي يضيء. بدا معظم الأطفال مأسورين بالضوء.
خلال هذا التبادل المذهل، بدا أحد الأطفال مستاءً بوضوح. وضع الدكتور باري لستر، أحد الأطباء الموجودين يديه على بطن الأم وراح يهز الطفل بلطف. كان لذلك أثراً مهدئاً عميقاً.
قال الدكتور برايزلتون عن لسان الأم التي عبرت عن أفكار كلّ مَن في الغرفة “لم أعلم أن الأطفال أذكياء في هذه المرحلة المبكرة!”
إرفعي الصوت
في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، في مختبر المعرفة والتنمية في جامعة باريس، كشف عالم نفس رائد يدعى جان بيير لوكانييه عدة أسرار حول ما يسمعه ويتعلمه الأطفال قبل الولادة.
أظهر المذياع الصغير الذي زلق في الرحم أن معدل الضجة داخل الرحم لا يختلف عن معدل الضجة عند زاوية شارع مزدحم. كانت الأصوات السائدة عبارة عن وقع نبضات قلب الأم، حفيف تدفق الدم عبر أوعيتها الدموية الكبيرة، والجهير في بطنها. ولكن مع هذه الأصوات، ظهرت أصوات في الغرفة وخاصة صوت الأم. ستهدئ هذه الأصوات لاحقاً بكاء المولودين الجدد. إنّ معظم الأصوات التي يسمعها الوالدان في الغرفة يستطيع الطفل سماعها من الداخل. كما أن الموسيقى المعزوفة في الغرفة تنتقل بوضوح إلى الطفل في أحشاء أمه.
هل يمكن أن يفهم الطفل هذه الموسيقى؟ في دراسة ما، عزف لوكانويه نوتتين فقط على البيانو. أولاً، عزف نوتة C أو D منخفضة وسجّل التغيّرات في معدل نبضات القلب لدى الأطفال عند ملاحظتهم النغمة. بعدما عاد المعدل إلى طبيعته، عزف نوتة أخرى ولوحظت التغيرات نفسها في معدل نبضات القلب. لم يهم ترتيب النوتتين. فقد سمع الأطفال النوتتين وكأنهما حدثين جديدين مثيرين للاهتمام. عزف من جديد نوتة C أو D مع مجموعة أخرى من الأطفال. وبعدما عادت معدلات نبضات القلب إلى طبيعتها، عزف النوتة نفسها مرة أخرى. من المدهش أن الأطفال لم يظهروا تغيّراً كبيراً في معدلات نبضات القلب عند سماعهم النوتة المألوفة. لقد تعرفوا إلى ما سمعوه سابقاً!
كذلك، يتعرّف الأطفال إلى طبقات الصوت. يستطيعون التمييز بين أصوات الأفراد حتى قبل ولادتهم. يمكنهم التمييز بين أصوات الرجال والنساء ويفضلون أصوات النساء على أصوات الرجال. ويتعرفون إلى صوت الأم ويفضلونه على أصوات باقي النساء. كما أن الأطفال غير المولودين يتعرفون إلى صوت الأب ويفضلونه على أصوات باقي الرجال، وحتى النساء أيضاً. كلما سمعوا صوتاً يتعلقون به أكثر فأكثر خاصة إنْ لم يكن صاخباً، ولكن عند الطبقة العليا التي نتكلم بها عند مخاطبة الأطفال.
هل يمكنهم فهم المقاطع اللفظية؟ أجرى لوكانويه دراسة مماثلة لدراسة مفاتيح البيانو، ولكن هذه المرة مع أصوات بشرية. إستمع الأطفال إلى زوج من المقاطع اللفظية با – بي أو بي – با. لقد أصغوا وتفاعلوا مع التغيّرات في معدل نبضات القلب. ما إنْ عاد المعدل إلى طبيعته، شعروا بالراحة إن أعيد المقطع اللفظي نفسه بالترتيب ذاته. ولكن إنْ تم عكس ترتيب هذين المقطعين اللفظيين المماثلين، كان يعلم الأطفال أن المعلومة جديدة فيتفاعلون بشدة مجدداً. استطاعوا التمييز بين المقاطع اللفظية المماثلة وملاحظة ترتيبها.
القطة في القبعة
في جامعة كارولينا الشمالية، كان الدكتور أنطوني دي كاسبر رائداً في اكتشاف ما يسمعه، يتعلمه، ويتذكره الأطفال قبل الولادة وبعدها. في دراسة رائعة، طلب الطبيب وزملاؤه من 16 أماً حاملاً قراءة قصتين بصوت مرتفع وتسجيلها على شريط. ومن هذه القصص نذكر القطة في القبعة، الملك، الفئران والجبن وهي كتب مؤلفة للأطفال بقلم نانسي غورناي.
ثم، طُلب من كل أم أن تقرأ إحدى هذه القصص مرتين يومياً على مدى ستة أسابيع ونصف الأسبوع في الفصل الثالث من الحمل. استمع كل طفل إلى القصة لحوالى خمس ساعات وهي مدة القراءة الكلية طيلة أكثر من شهر ونصف الشهر.
بعد ثلاثة أيام من ولادة كل طفل، وُضعت سماعات رأس مبطنة على الأذنين ومصاصة في الفم. حددت سرعة امتصاص هذه الأخيرة ما يسمعونه عبر السماعات. إنْ سمعوا قصة، يمصون بسرعة وإنْ سمعوا القصة الأخرى، يمصون ببطء. اكتشف 15 من بين 16 طفلاً الآلية وامتصوا المصاصة بالسرعة الصحيحة عند سماعهم القصة التي قرأتها الأم قبل الولادة.
يذكرني ذلك بأطفالي الذين كانوا يطلبون مني قراءة القصة نفسها مراراً وتكراراً. أعتقد أنهم أرادوا الشيء نفسه حتى قبل ولادتهم ولكن لم يكن هناك طريقة لفهمهم. يقترح بحث الدكتور دي كاسبر أن هؤلاء الأطفال يستطيعون الإصغاء إلى قصة جميلة والاستمتاع بها. وأظن أن الأطفال يحبون الاستماع إلى بعض الأشياء المألوفة وبعض الأمور الجديدة. يبدو أنهم يتمتعون خاصة بالألفاظ ذات السجع لأنهم يستطيعون التوقع بصدى الألفاظ.
يُستحسن أن تبدأ العائلة بادخار بعض الوقت للتمتع بالقراءة بصوت عالٍ قبل ولادة الطفل. تواصل واقرأ هو برنامج جديد رائع يأخذ القراءة العائلية على محمل الجدّ. تشجع هذه المنظمة القراءة عبر تقديم كتب جديدة للأطفال من الشهر السادس حتى السنة الخامسة وتشجع أيضاً الأهل على القراءة بصوت عالٍ مع أطفالهم. أسس روبرت نيدلمان، دكتوراه في الطب، في جامعة بوسطن، هذه المنظمة وجعلها منظمة وطنية غير تجارية تقوم بتوزيع كتب مجانية على أكثر من ألفي عيادة ومكتب لطبّ الأطفال في أنحاء البلاد. أهنئه على نجاحه وأتمنى له الاستمرار!
كل الموسيقى في كل الأوقات
غالباً ما يحب الأطفال الموسيقى. تقول لي بعض الأمهات إنّ أطفالهن يبدأون بالرقص في أحشائهن عندما تبدأ الموسيقى. فيما تقول أخريات إن الموسيقى تهدّئ أطفالهن. أعتقد أن الأمر يعتمد جزئياً على الطفل، على الموسيقى وعلى الوقت المحدد من النهار.
كما أن الغناء لطفلك هو طريقة رائعة للمزج بين قوة الموسيقى وسحر صوتك. قد ترغبين في غناء الدويتو! حاولي أن تعرفي ردّة فعل طفلك تجاه الأغاني المختلفة.
لا يكون الأطفال دائماً بمزاج يسمح لهم بالاستماع إلى الموسيقى. يبدو أنهم يمرون بحالات مزاجية عديدة كل يوم. أحياناً، يكونون في حالة نشاط واستكشاف وتحركاتهم الجسدية واضحة. وأحياناً أخرى، يكونون نياماً. ولكن في بعض الأوقات، يكونون مستيقظين ولكن هادئين (حالة اليقظة الهادئة التي سنتطرق إليها لاحقاً). يحب الأطفال الاستماع إلى الموسيقى في حالة اليقظة الهادئة خاصة إنْ لم يكن صوتك مرتفعاً جداً. إنهم يتفاعلون بشكل سلبي مع الأصوات العالية والأجشة.
إنْ كنت تقرأين أو تغنين قصداً لطفلك، فإنك تعلمينه كل يوم. أذناه مفتوحتان. إنه يصغي، يراقب، ويتعلم مما تأكلينه، تشمينه، وتقولينه. كل ما تفعلينه تقريباً هو طريقة لإطلاع طفلك على جزء من قصتك وهي طريقة لنقل جيناتك إلى مَن تحملينه في أحشائك.
عبر هذه الصلة، يمكنكما أن تناما وتحلما معاً.