تشكل الرئتان نقطة الارتكاز الأساسية لتأمين الكمية الكافية من الأوكسجين التي يتطلبها جسم الإنسان لوظائفه المتعددة. والرئتان على علاقة راسخة، بالغة الدقة والاتصال بالقصبة الهوائية وتشعباتها المتنوعة، أي حسب نسبة المقاس والقطر، والتي تؤمن إيصال الهواء من المجاري الهوائية العليا (الأنف، البلعوم، الحنجرة) بعد تخليصه من الشوائب والذرات المضرة والجراثيم، وذلك من خلال الأغشية المخاطية لهذه المجاري العليا والسفلى على السواء.
وعند وصول الهواء المستنشق إلى خلايا الرئتين، أي الحويصلات، يحصل التبادل الغازي بواسطة الجهاز الشعيراتي الشرياني المشبع بالأوكسجين، وبين الجهاز الشعيراتي الوريدي الغني بغاز ثاني أوكسيد الكربون، حيث ينتشر التبادل في الشرايين الرئوية ومنها إلى القلب ومن ثم إلى الجسم بجميع أعضائه وأنسجته، وتحصل في الوقت عينه عملية التخلص من ثاني أوكسيد الكربون؛ وكل ذلك يجري من خلال خضاب الدم الحاوي على عنصر الحديد، الذي يعطي للدم لونه الأحمر القاني، وهو الناقل الأساسي للأوكسجين إلى كافة أعضاء الجسم
من ناحية أخرى، للرئتين علاقة وثيقة بالغشاء الذي يبطنها خارجياً، أي الجنب أو البلورا؛ لذا فإن أي إصابة للرئة يمكن أن تبدأ بالقصبة الهوائية أو تشعباتها، لتمتد لاحقاً إلى الخلايا الرئوية، وتشكل وحدة مرضية تعرف بالإصابة الشُعيبية الحويصلية؛ كما يمكن للإصابة البقاء محصورة في خلايا الرئة وحدها، مسببة داء ذات الرئة مع إمكانية بعض المضاعفات الأقل أهمية على مستوى الشعيبات.
ويمكن للإصابة أن تمتد من الرئة إلى الغشاء الرئوي، نتيجة التجاور والمحاذاة، محدثة إصابة غشائية رئوية، كما يمكن لبعض الإصابات أن تمتد إلى النسيج الرئوي الذي يفصل بين الخلايا الرئوية، أو النسيج الخلالي، لتؤدي إلى حالة سريرية معقدة في إصابة الرئة.
تعد الإصابة الحادة للرئة بالالتهاب موضوعاً طبياً قيد المتابعة الدائمة نظراً للأرضية التي تحدث عليها؛ إذ إن هذه الإصابات شائعة الحدوث في مختلف الأعمار والأوضاع الصحية، نذكر منها: ذات الرئة عند الأطفال حديثي الولادة تحت شكل الإصابة الشعيبية الحويصلية، وعند الأشخاص ما فوق الستين وخاصة ذوي العاهات المعروفة كالمرض الرئوي القصبي الحاد أو المزمن، أو القصور في القلب الأيسر، وعند المصابين بالكلى والكبد والقلب والسكري ومدمني الكحول؛ أو عند الذين خضعوا لعملية استئصال الطحال أو ذوي المناعة المثبطة نتيجة مرض عُضال (السيدا، سرطان…)، أو من هم تحت علاج كيميائي أو هرموني.. وغيرها.
أما الشكل السريري الأكثر شيوعاً في هذه الإصابة هو: ذات الرئة الفصية الواضحة والحادة، الناتجة، في كثير من الحالات، عن الإصابة بجرثومة بكتيرية معروفة وهي العقدية الرئوية المكورة، هذا مع العلم أن جراثيم أخرى يمكن لها أن تكون السبب، أكانت فيروسات أو بكتيريا مختلفة.
العلامات السريرية للإصابة
يشكل التهاب الرئة الحاد وحدة سريرية متكاملة، تعبر عن ذاتها بطريقة واضحة من خلال ارتفاع الحرارة الحاد في غالب الأحيان (40 درجة مئوية)، يصاحب الحمى ألم في الصدر يتمركز على القاعدة الخلفية للقفص الصدري مع سعال حاد، ناشف بصورة عامة ومعتدل، كذلك من خلال تف البصاق وعدم ثبات كمية الإفرازات في هذه المرحلة من الإصابة. يتبع هاتين العلامتين ضيق في التنفس وازرقاق يمكن أن يترافق مع هبوط في ضغط الدم الشرياني؛ ويلاحظ عند الطفل غياب عملية إخراج الإفرازات نظراً لعدم قدرته على القيام بذلك قبل بلوغه سن محددة (5 إلى 6 سنوات)، ويترك ضيق التنفس أثره في تغير حركات أجنحة الأنف مع تدهور الوضع الصحي العام للطفل، ويمكن سماع صوت صفير عند التنفس خلال الفحص السريري مع زيادة تردد التموجات الصوتية عند التكلم، ويستنتج من القرع الإصغائي على الصدر ضعف في انتقال الصدى داخل الجزء المصاب في الرئة.
يمكن تحديد الإصابة بشكل واضح بواسطة التصوير الشعاعي للرئتين، وفي حال وجود صور غير عادية يتوجب التفكير بتشخيص لأمراض أخرى (التدرن الرئوي، السل) أو وجود تورم خبيث (سرطان الرئة) أو انسداد شريان الرئة، أو غير ذلك من الإصابات الرئوية خصوصاً لدى الكبار.
كما أن التحاليل المخبرية تساعد في التشخيص ومنها: فحص كريات الدم البيضاء من ناحية نوعيتها وعددها، ما يميز الإصابة البكتيرية عن الفيروسية، يصاحب ذلك ارتفاع في سرعة تخثر الدم وارتفاع التفاعل البروتيني في الدم، ما يشير إلى وجود حالة التهاب. يبقى زرع عينة من الدم (في أنبوب مخبري يحوي على مواد بيولوجية تساعد على نمو وتكاثر جراثيم محددة) الذي يحدد نوعية الجرثومة في حالات عديدة.
أما الجراثيم الأكثر شيوعاً في هذه الإصابة لدى الأطفال، فبعضها ينتمي إلى فصيلة الفيروسات وبعضها الأخر يكون بكتيريا. إذ يمكن للإصابة أن تحدث نتيجة فيروس من فئة الفيروس الغشائي، أو بعد الإصابة بمرض الحصبة أو أحد الأمراض الانتقالية مثل جدري الماء، السعال الديكي، كما يمكن أن تكون نتيجة الإصابة بالفيروس المخلوي التنفسي.
ومن فئة البكتيريا يأتي في رأس القائمة العقدية الرئوية المكورة كما أسلفنا في بداية الموضوع أو من فصيلة أخرى تنتمي إلى عائلة العُقدية، أو بكتيريا أخرى غير نمطية مثل كلاميديا، ميكوبلاسما، أو ربما الإصابة بداء السل في شكله البدائي؛ ومن فئة الطفيليات نذكر الطفيلة ذات الأكياس الرئوية وطفيلة التوكسوبلاسما.. وغيرها.
الوقاية باكراً ابتداء من عمر الشهرين
تشكل بكتيريا العقدية الرئوية أكثر الجراثيم سبباً للإصابة بداء ذات الرئة الحاد لدى الأطفال والأولاد. ومنذ سنوات وصلت الأبحاث في البلاد المتطورة علمياً، إلى اكتشاف لقاح فعال ضد هذه الجرثومة التي تصيب الأذن الوسطى والرئة وغشاء الدماغ (السحايا)؛ ما يشكل إنجازاً هاماً وتطوراً في عالم اللقاحات والطب الوقائي؛ إذ تبين بعد الدراسات الأوروبية والأميركية، أن هذا اللقاح يوفر الحماية لهؤلاء الأطفال بنسبة تترواح بين 45 إلى 55 % وتحميهم خصوصاً من التهاب الرئة والسحايا.
ويتوافر اللقاح في نموذجين: الأول يحوي على 13 نمطاً للجرثومة وهي الأكثر شيوعاً في الإصابات المسجلة؛ أما النموذج الثاني يؤمن حماية ضد 10 أنماط (ويمكن بيولوجياً أن يؤمن مناعة ضد 12 نمطاً من هذه البكتيريا، حسب دراسات المختبرات التي تنتج هذا اللقاح).يعطى هذا اللقاح باكراً لدى الأطفال الرضع، ابتداء من عمر الشهرين وعلى ثلاث دفعات، بواسطة حقنة في العضل، تفصل بين الحقنة والأخرى فترة تتراوح بين شهر وشهرين، ثم يعاد اللقاح بحقنة تذكيرية ولمرة واحدة وأخيرة بعد مرور فترة 6 أشهر إلى سنة على الدفعة الثالثة، ويعطى اللقاح على دفعتين بين عمر السنة والسنتين (إذا لم يكن الطفل قد حصل عليه سابقاً) ومرة واحدة بين سن 3 إلى 5 سنوات. كما يمكن إعطاء هذا اللقاح في الوقت نفسه مع اللقاحات الأخرى (الخماسي، جدري الماء، الثلاثي الفيروسي MMR…) على أن ُيحقن في موضع آخر من الجسم. وقد صدرت أخيراً توصيات بإعطاء هذا اللقاح إلى الأفراد ابتداءً من عمر 65 سنة وما فوق، نظراً لخطورة الإصابة الحادة بذات الرئة في هذه الفترات من العمر.