يشكل التهاب القصبة الهوائية أحد الأمراض الواسعة الانتشار في جميع بلدان العالم، وعلى مستوى كل الأعمار، ولا بد من استشارة الطبيب، وخصوصاً لدى الأطفال، عندما تترافق حالات السعال الحاد مع لهاث مفاجئ، تزعج الطفل في نومه، إذا ما رافق السعال حالات استفراغ في بعض الأحيان أو ارتفاع في الحرارة الداخلية أو ضيق في التنفس في ظروف أخرى.
تحدث هذه الإصابات غالباً في فصل الشتاء نظراً لتكاثر الجراثيم (الفيروسات خصوصاً) مع تغيرات درجة الحرارة، ونسبة الرطوبة وسرعة هبوب الرياح؛ كلها عوامل تساعد على انتقال وانتشار هذه الجراثيم، وبخاصة في الأماكن التي تتواجد فيها مجموعات بشرية (مدارس، دور حضانة..)، ما يؤدي إلى تكاثر نسبة الإصابات في البلعوم واللوزتين والحنجرة في هذا الفصل، وفي الحالات التي لا تعالج جيداً أو يكون فيها العلاج متقطعاً أو غير كاف؛ أو في تلك الحالات المزمنة التي تتطلب علاجاً وقائياً (التهاب متكرر في الأنف مع وجود أرضية تحسسية، التهاب في اللوزتين أو الحنجرة أو إصابة ربو..)؛ لتصبح عرضة للانتكاس المتكرر وحصول إصابات حادة، لاسيما التقاط جرثومة أخرى من فصيلة البكتيريا ليصبح الالتهاب على شكل إنتان إضافي.. هذا إن لم يتدخل الطبيب سريعاً، ويتصدى لمثل هذه الحالات بالعلاج المبكر.
يصيب التهاب القصبة الهوائية الحاد القصبات الهوائية الأساسية أو الشعيبات القصبية ذات القطر الاقل اتساعاً من الأولى. هي عموماً إصابات فيروسية في 90 % من الحالات. ونادراً ما يكون السبب بكتيرياً. يعتبر المرض حميداً عموماً ويجد له أرضية صالحة عند المدخنين، أو ذوي المناعة المثبطة وفي أجواء التلوث البيئي، أو في ظروف اجتماعية معيشية واقتصادية غير مستقرة.
ما هي العلامات السريرية للإصابة؟
يمر تطور المرض في مرحلتين، تسبقهما فترة تجمع الإفرازات المخاطية في المجاري الهوائية العليا، على شكل رشح بسيط ومن ثم تتدرج الإصابة نزولاً (من هنا التسمية: النزلة الصدرية)، ويمكن لفترة الحضانة أن تدوم عدة أيام إلى عدة أسابيع، حسب نوعية الجرثومة وشراستها.
• المرحلة الأولى للالتهاب القصبي تتميز بالسعال الناشف الذي يحدث على شكل نوبات متقطعة خماسية، يصاحبه شعور بالألم على شكل حرقة متأتية من خلف عظم القصّ للقفص الصدري، مع اضطراب في التنفس عند الإجهاد، وارتفاع في الحرارة، لكنه غير ثابت بين (38 و39 درجة مئوية)؛ يصاحب كل ذلك إحساس بالتعب العام وصداع ويمكن لهذه المرحلة أن تدوم من 3 إلى 5 أيام.
• المرحلة الثانية في تطور المرض يصبح فيها السعال رطباً، وهو أكثر سهولة ولا يسبب الألم، لكنه يصبح منتجاً للبلغم على شكل سائل مخاطي لزج، كثيف وذي رائحة كريهة (يحوي بصاق المصاب على قيح)، وفي بعض الحالات يؤدي السعال إلى بُصاق ملوّن بالدم. تدوم هذه الفترة من 4 إلى 5 أيام، ويمكن أن تطول لدى المدخنين أو الأطفال المصابين بداء الربو.
في مجمل الحالات تتطور الإصابة بشكل حميد ويحصل الشفاء في مدة لا تتجاوز عشرة أيام ودون أن تترك تداعيات أو مضاعفات تذكر، مع احتمال بقاء فترة السعال لمدة أسابيع أو أشهر، ما ينبغي المتابعة الطبية إذا ما رافقته مجدداً علامات مرضية لم تكن موجودة من قبل.
ما هي الأسباب المؤدية إلى هذه الإصابات؟
عموماً تلعب الفيروسات دوراً هاماً في مثل هذه الإصابات، أما البكتيريا فهي نادرة، الحدوث، إلا إذا ما اقترنت بالالتهاب الفيروسي، ولأن الإصابات الفيروسية المتكررة للمجاري الهوائية تساهم في الاستيطان داخلها، يمكن للإصابتين (فيروس، باكتيريا) بالتواجد معاً أو تلي الواحدة الأخرى.
• هذا مع العلم أن بعض البكتيريا يمكنها أن تكون مسببة للإصابة منذ البداية وبخاصة عند الأولاد، نذكر هنا فصيلة من البكتيريا يعرفها جيداً أطباء الأطفال، لاسيما في فصل الشتاء، عنينا بها بكتيريا مفطورة الرئوية.
• كذلك الأمر بالنسبة إلى جرثومة السعال الديكي أو الشاهوق (رغم التلقيح، إذ إن اللقاح الحديث المدعم للمناعة، لم تحصل عليه أجيال من الأولاد فيما مضى وحتى لدى البالغين، من هنا أهمية التلقيح ضد الشاهوق لدى الكبار والصغار على السواء، لسبب جوهري وهو حماية الصغار من عدوى ينقلها إليهم الكبار! ومن الخطأ الاعتقاد أن السعال الديكي يصيب الأطفال فقط. ولقاح الكبار متوافر منذ سنوات).
• جرثومة ذات الرئة، وهي معروفة باسم البكتيريا العقدية المكورة الرئوية، تصيب القصبة الهوائية كذلك.
ما هي وسائل التشخيص؟
ثلاث علامات سريرية تسمح للطبيب تشخيص المرض، لدى المصاب الذي لا يعاني من أية سوابق مرضية خاصة: السعال وارتفاع الحرارة ومجّ البصاق، إلى الفحص السريري الكامل والمتأني وفي جو هادئ، الذي يظهر سماع خرخرة عند فحص الجهاز التنفسي؛ مع عدم الضرورة لطلب صورة شعاعية للرئتين، إلا في حال وجود شك أو علامات سريرية واضحة بإصابة الرئتين، أو في حال تكرر الإصابة خلال السنة، ما يستوجب إجراء الفحوصات للرئتين والجيوب الأنفية وبعض التحاليل المخبرية.
شكل سريري خاص عند الأطفال الرضع
ترتدي هذه الإصابة طابعاً خاصاً لدى الأطفال الرضع، حيث تصيب الجرثومة الشعيبات القصبية الصغيرة من الدرجة الثانية والثالثة بالنسبة إلى قطرها الذي يزداد ضيقاً عن القصبة الأم الأساسية. تتكاثر الإصابة في فصل الشتاء حيث تشكل نسبة بين 17 إلى 20% من مجموعة الإصابات للقصبة الهوائية لدى الرضع حسب الإحصاءات الفرنسية، ما يستوجب إدخال هؤلاء الأطفال المستشفى بشكل طارئ للعلاج والمراقبة الدقيقة.
• إن السبب لهذه الإصابات يعود إلى جرثومة من فصيلة الفيروس، معروفة طبياً وتدعى الفيروس المخلوي التنفسي، تؤدي إلى إصابة القصبات الرئوية ضيقة القطر وخلايا الرئة (الحويصلات). هذه الحالة السريرية الخاصة تعرف بالتهاب قصبي سنخي، وتشكل الإنتان الأشد شراسة على مستوى المجاري الهوائية السفلى عند الأطفال تحت عمر السنتين، وبخاصة عند الرضع دون الستة أشهر، حتى أن بعضهم يتعرضون لانتكاسات متكررة.
• يمكن لبكتيريا مستدمية الأنفلونزا أن تسبب المرض كذلك، ولكن بنسبة أقل من الفيروس، خصوصاً في أيامنا الحاضرة بعد إدخال اللقاح الفعال ضد هذه البكتيريا، باكراً لدى الرضع.
• تبقى علاقة هذه الإصابة مع إصابات الربو تحت تشخيص: التهاب القصبة الهوائية شبيهة الربو، وهي مدعاة لكثير من النقاشات الطبية، لأنه من المعروف طبياً أن الإصابات الفيروسية بإمكانها أن تكون المسبب لنوبات اللهاث على شكل ربو، إذ إن كثيراً من الأطفال الذين أصيبوا في طفولتهم الأولى بالتهاب الشعيبات، يصبحون فيما بعد أرضية خصبة للإصابة بمرض ربو تحسسي حقيقي؛ لكن لا يمكن الفصل حالياً بينهما: هل هما المرض نفسه أم حالتان مختلفتان؟
تتمثل إصابة الشعيبات الهوائية عند الأطفال بوحدة سريرية متكاملة تدوم من 3 إلى 7 أيام، تبدأ على شكل التهاب عادي بسيط للمجاري الهوائية العليا بعلامات معروفة: رشح، ارتفاع معتدل للحرارة وسيلان في الأنف وسعال ناشف غير ثابت؛ لتظهر بعدها علامات الصعوبة في التنفس (التي تبدو جلية خلال تناول الطفل رضعته الغذائية)، حين يصبح التنفس سريعاً وسطحياً، تستنفد الطفل فتخف كمية السوائل والحليب المتناولة من رضعة إلى أخرى ليرفض بعدها ثدي الأم أو قنينة الحليب. وهنا نستنتج علامات ضيق مهمة تعتري عملية الشهيق التي تترافق مع علامات انكماش للمساحة التي تفصل بين الأضلاع وفوق وتحت عظم القصّ، مع خفقان أجنحة الأنف، ما يؤدي إلى قصور في الجهاز التنفسي يصاحبه اضطراب حركات الطفل وشحوب في لونه يسبق اللون الأزرق الذي يلون بوضوح الشفتين والدائرة حول الفم، بينما نلاحظ أن ارتفاع الحرارة هو بسيط أو معتدل، يتبين في الفحص السريري للرئتين وجود خرخرة منتشرة مع وتيرة صوت صفير. أما الصورة الشعاعية للصدر فتظهر التغيرات على مستوى الرئتين ووضعية الحجاب الحاجز مع اتجاه وضعية الأضلاع إلى التزام خط أفقي غير طبيعي (وليس نصف دائري كالمعتاد).
تتوجب معالجة هذه الإصابات بالكثير من المراقبة الدقيقة والمتواصلة، لأن نسبة الوفاة في هكذا حالات لا تزال عالية (5 %)، وفي أغلب الأوقات نتيجة حصول اشتراكات مثل استرواح الصدر وهو يتمثل بدخول كمية من الهواء بين طبقتي غشاء الرئة أو الجنب، ما يؤدي إلى الضغط على الرئة وانخماصها وإلى القصور الحاد (في التنفس أو في القلب)؛ أو التقاط بكتيريا تكون سبباً لالتهاب إضافي يشكل نقطة انطلاق لإصابة أعضاء أخرى في جسم الرضيع.