من الأمور الأساسية التي يجب أن تسبق وضع الحدود لسلوكيات أبنائنا، هي أن نتقبلهم ونعجب بهم ونتحدث وننصت إليهم ونحبهم حباً غير مشروط.
العاطفة أساسية لتحقيق أي شيء عظيم، وعندما يرتبط ما تقوم به بحبك له، فإنك تُخرج أقصى ما يمكن من قواك الكامنة لإنجاز ذلك الشيء. إنطلاقاً من هذا المبدأ، إن أنت تقبلت طفلك وتعاملت معه بحب وإعجاب فإنك ستخرج العملاق منه ومنك. تأثير الإعجاب الصادق كالسحر على سلوك الأطفال، كقولك له: «أنا سعيد لأنك ابننا» أو «أنا أحبك».. إنها عبارات تكسب الطفل تقديراً لذاته وللآخرين، وتعطيه شعوراً بالأمان، وهذا الغذاء العاطفي يساعده على التفكير والعمل بطريقة مبدعة وخلاقة. عبارات الحب والتقدير يجب أن تقال بصدق، فتعبيرات الوجه ونبرة الصوت تبين المشاعر الداخلية، التي يلتقطها الأطفال بمهارة. ابتسامة تعلو الوجه وذراعان مفتوحاتان ونظرة حنان قد تعبر عن الحب دون النطق بكلمة، بينما نبرة صوت فاترة ووجه عابس قد تجعل كلمة الحب تفقد معناها وصدقها. فالأطفال يحتاجون إلى أحضان دافئة وقواعد واضحة ومنطقية وسلطة حازمة.
عبر عن حبك وتقديرك وثنائك لطفلك ليتعلم منك التعبير عن عواطفه، فنحن نريد علاقة مبنية على الاحترام والتقدير، ولا نريد أطفالاً يخافون آباءهم.
يعتقد الكثير من الآباء أن الاستجابة لرغبات الطفل، بتركه يفعل ما يريد وما يحلو له، هي التي تعني التقبل والحب، وقد يعتقد البعض أن هؤلاء الأطفال سعداء ومحظوظون. في الحقيقة هم يشعرون بالخوف ويفتقدون الشعور بالأمان ومن الصعب إرضاؤهم، فالطفل الذي يستطيع الحصول على كل شيء يفهم أنه هو المسيطر والمسئول، فيتلاعب بك ويضطرب سلوكه ليبلغك رسالة يقول لك فيها: أنت لا تهتم بي ولا حتى تكلف نفسك عناء وضع الحدود لسلوكياتي مهما بالغت في الإزعاج والإساءة.
كما أن المبالغة في مراقبة الطفل، والتعليقات المستمرة على سلوكه حتى وإن كانت تلك التعليقات إيجابية، تجعله يشعر بالانزعاج وأنه خاضع لمراقبة مستمرة، فتتزعزع ثقته بنفسه. تقبل وحب الطفل لا يعني الإفراط في التعبير عن الإعجاب، يجب أن تترك مساحة بينك وبينه لينشغل فيها بما يفعله، دون أن يشعر بالقلق بشأن ما ستحكم به على ما يقوم به من أشياء أو سلوكيات.
ويتضمن تقبل الطفل، أن لا نطلق أحكاماً عليه بصفات معينة، خجول أو عنيد أو كسول.. عندما يسمع الطفل من حوله يقولون عنه نفس الشيء مراراً وتكراراً فإنه يبدأ في تصديق ذلك، ولسان حاله يقول: طالما أنكم ترونني هكذا، إذاً فسأكون كما ترون. فالطفل يتأثر بتوقعاتك التي قد تكون إيجابية أو سلبية، إذا نظرت إلى عيوبه ونعته بها، فإنه سيغرق في التصرفات السلبية، وإذا ركزت على الجوانب الإيجابية من تصرفاته، فإنه سيكون عند حسن ظنك به ويثبت لك ما تظنه فيه. ساعد أبناءك على أن يرى كل منهم أفضل ما في الآخر من صفات، تدخَل إن وجدت أحدهم يصف أخاه بأنه قبيح أو شرير أو سمين..
ابحث عن فرص يظهر فيها الطفل بصورة أفضل، مثلاً: طفل عصبي المزاج، لم يغضب عندما أخذ منه أخوه لعبته، استغل هذه المناسبة لتشكره وتثني عليه. أو أن تضعه في موقف يمكنه أن يرى نفسه فيه بشكل مختلف، مثلاً: طفل خجول، تطلب منه أن يناولك علبة المناديل وأنت تجلس بصحبة مجموعة من الضيوف. أو تدعه يسمعك وأنت تقول لأحد أفراد عائلتك شيئاً إيجابياً عنه، مثلاً، تقول لأختك: إن رامي يحب الرسم وها هو قد أنجز عدة لوحات جميلة ودقيقة. وإذا صمم طفلك على التصرف وفقاً لعاداته السابقة التي لا تعجبك، عبر عن مشاعرك وتوقعاتك، مثلاً: ضرب أخاه، تقول له ما هذا، يجيبك هو من تحرش بي، ترد عليه: ليس لدي صبر لسماع أعذارك، أريد منك أن تمتنع عن ضربه. هدفنا دائماً أن نكسر الصورة السلبية التي قد تلتصق بالطفل، وليرى نفسه بصورة أكثر إيجابية.
نحن نساعد أطفالنا ليستكشفوا أنفسهم، نعمل على إبراز نقاط القوة لديهم ونثق بإمكانياتهم. الأطفال في حالة نمو وتطور مستمر، ولديهم القدرة على التغيير، لا نسجنهم في دائرة من التصنيفات، متوسط أو ممتاز أو ضعيف، خجول أو عصبي.. ندعهم ينطلقون بأحلامهم وأمالهم وقدراتهم.
تصنيف الطفل حسب صفات معينة سواءً أكانت الصفة إيجابية أم سلبية، تشعره بالضغط وتضعه في مأزق، لأنه إما أن يتصرف بطريقة فيها عبء عليه ليبرهن أنه أهل لتلك الصفة، وإما أن يتصرف بطريقة غبية ليبرهن لك أنه ليس دائماً كما تتوقع منه. يجب أن نساعد الأطفال ليتحرروا من قيود تصنيفاتنا، وندعهم يتصرفون بناءً على كيفية تقديرهم للمواقف، وليس حسب وجهة نظر الكبار سعياً لتحقيق توقعاتهم أو نيل استحسانهم. فرغم أنه يجب علينا مراقبتهم ووضع حدود لسلوكياتهم السيئة، إلا أن ترك مساحة من الحرية ضمن قيود معينة ضرورية من أجل مساعدتهم على الإبداع والتطور التلقائي.
تقبل الطفل يتطلب منك أن تراعي الفروق الفردية الموجودة بين أبنائك، فلكل واحد منهم صفاته وإمكانياته، لا تقارن فيما بينهم. على سبيل المثال: لا تقول له: «أخوك أشطر منك» أو «أخوك يسمع الكلام وأنت لا تسمعه»، إنها عبارات مسيئة للطفل وتحط من قيمته. فالهدف من التأديب ووضح الحدود هو تعديل وتوجيه سلوكيات الطفل لتكون غير مؤذية للآخرين وله، التأديب لا يعني إلغاء شخصية الطفل أو كسرها. نحن نتقبل شخصيته بجميع مميزاتها ونقاط ضعفها، فقد يكون أقل ذكاءً أو وسامة أو قوة، وقد يستفزك ضعفه دون قصد منك، لا تقارنه بمن هو أكثر ذكاءً أو وسامة أو قوة. إن ضغط الوالدين على الطفل لكي ينجز أو يتعلم أشياء خارج حدود إمكانياته، أو رغبة في تغييره ليكون حسب توقعاتهما ومقارنة بأقران آخرين، قد يسبب له مشاكل نفسية وربما قد تحدث له أعراضاً جسمية يعبر بها عن رفضه بشكل لاشعوري.
هناك فروق فردية بين الأطفال علينا احترامها، فنحن نريد أن نُخرج منهم أقصى ما يمكن حسب قدراتهم وميولهم. علينا أن نجعل احتياجات الطفل وقدراته هي التي تقودنا وتحدد لنا أي نوع من الأنشطة نتيحها له، فاهتمامه الحقيقي بالشيء هو الذي يجعله يتعلم ذلك الشيء، ومع دعمنا وتوجيهنا له نساعده على الاستمرارية في تعلم ذلك الشيء. فكل منا يولد وبداخله قدرات وإمكانيات تميزه عن غيره، هناك من لديه مهارات حركية أو موسيقية أو لغوية أو اجتماعية أو رياضية.. فإذا استطعنا أن نساعد أبناءنا ليكتشفوا ما لديهم من مميزات، وما لديهم من مقومات نجاح، نكون بذلك قد قدمنا لهم الدليل الذي سوف ينير طريقهم خلال مسيرة حياتهم. على سبيل المثال: أخبر طفلك بأنه متميز في الرسم وبين ملاحظاتك على رسوماته، والأشياء الدالة على تميزه فيها وساعده على المثابرة. تركيزك على تميزه يزيد من ثقته بنفسه ويرفع من مستوى طاقته ويشعره بالرضا والسعادة.
تقبلك لطفلك يتطلب منك التواصل معه. التواصل يعني أن تتحدث إليه وتنصت له وتفهم دوافع سلوكه، وأيضاً أن يستطيع هو التعبير عن مشاعره وأفكاره دون خوف منك.
من أهم أسس التربية، التحدث إلى الطفل. أطل الحديث معه وأجب عن أسئلته وعبر عن مشاعرك معه واحرص على قضاء وقت ممتع بصحبته، فذلك يُشعره بالسعادة. حدث طفلك بشكل إيجابي، فبدلاً من أن تخبره بما لا يجب عليه فعله، أخبره بما يجب أن يفعله، على سبيل المثال: بدلاً من أن تقول له أنت فوضوي لأن ألعابك في كل مكان، قل له: اجمع ألعابك وضعها في المكان المخصص لها. واحرص على الحديث معه قبل نومه، فهو التوقيت المثالي لإظهار اهتمامك به وتركيزك معه. إن دقائق قليلة هي كل ما يحتاجه منك، وليكن حديثك معه إيجابياً ومرحاً، فما ينام عليه يصحو عليه، وأفضل أوقات البرمجة تتم قبل النوم.
الإنصات للطفل من المهارات التي لا يجيدها الكثير من الآباء. عندما تنصت إلى طفلك ركز معه لتفهم ما يريد تبليغه لك، وتفهم وجهة نظره، ودعه هو من يوجه الحديث ودورك أن تسير في اتجاه حديثه، طارحاً بعض الأسئلة مثل: كيف ومتى، رغبة في أن تحصل على أقصى ما يمكن من معلومات يريد أن يبلغها لك. عندما تنصت إليه لا تقاطعه ولا تتسرع لتقدم اقتراحات أو نصائح. إنها فرصتك لتفهم ما يريد قوله وما يشعر به.
عندما تنصت إلى طفلك اسأل نفسك، ما أهمية هذا الأمر بالنسبة له، وما الذي يريد أن يخبرني به، وما هي مشاعره هل هو حزين أم غاضب أم خائف، هل يريد مني أن أساعده في حل مشكلة ما يعاني منها.. فالإنصات يكون للكلمات والمشاعر.
انظر إلى طفلك بموضوعية، بعيداً عن مخاوفك وغضبك ومعاناتك، هذه النظرة ستساعدك على التركيز على سلوكه لتعديله أو تغييره، بدل أن تأخذ الأمر بشكل شخصي فتسيء له دون قصد منك. على سبيل المثال: التشابه الذي قد يكون بين الطفل وأبيه (أو أمه) في صفة سلبية أو إيجابية، الخجل مثلاً، فقد يرى الأب في نفسه تلك الصفة التي لا تعجبه، وعندما يرى في ابنه سلوكيات تعبر عن تلك الصفة قد يميل بشكل مبالغ فيه لتعنيفه وتوبيخه. أو قد تكون الأم شديدة النظام والترتيب، فتميل إلى المبالغة في تأنيب الطفل والتركيز على سلوكياته الفوضوية. وقد تكون هناك خلافات بين الزوجين وأحدهما يكره صفة ما في الآخر، عندما يرى في أحد أبنائه تلك الصفة، قد يميل إلى عدم الموضوعية فيتشاجر معه على تصرفات تدل على تلك الصفة يقوم بها بشكل عفوي وهي من طبيعة شخصيته وليس له يد فيها. وفي كثير من الأحيان يكون الآباء والأمهات في حالة معاناة من التوتر والضغط النفسي بسبب الإرهاق في العمل أو بسبب الظروف الحياتية الصعبة، فيتعرض أبناؤهم للإساءة والظلم من قبلهم نظراً لأنهم في حالة غير قابلة لمزيد من الضغط الناتج عن سلوكيات أبنائهم غير المحتملة.. ما سبق يجعل الطفل يشك في حب والديه له، وينخفض تقديره لذاته.
باختصار، تقبل الطفل يتطلب منك أن تعجب به وتحبه حباً غير مشروط، بغض النظر عن نقاط ضعفه وعيوبه، تتقبله كما هو. وأيضاً ألا تقيده بتصنيفه حسب صفات معينة، سواء أكانت تلك الصفات إيجابية أم سلبية.
تأليف: د. فاطمة الكتاني