عندما ينطفىء جهاز إنذار الحريق في مبنى يحترق، يطلق سلسلة من الوقائع المصممة لإنقاذ حياة الإنسان ومنع تضرر البنية. ما إن ينطلق الإنذار، يدرك المقيمون وجود الخطر فيخلون المبنى. يتم إخطار رجال الإطفاء عن موقع الحريق وقوة الانفجار فيسرعون إلى موقع الحدث مجهزين بالمعدات المناسبة. إن كان الحريق طفيفا ويمكن احتواؤه، يكفي مخمد الحريق أو خرطوم المياه لإطفائه. وإن كان الحريق ضخما، قد يتم الإتصال بشركات متعددة للمحركات للحضور إلى الموقع. وقد تتطلب عمليات الإنقاذ تحطيم الأبواب وكسر النوافذ. يستحق الأمر إحداث هذه الأضرار إن كانت النتيجة إنقاذ المزيد من الأرواح.
يتمتع الجسم بجهاز إنذار مماثل. عندما يحس الجسم بالخطر من جراء رضح فيزيولوجي أو غزو الجراثيم، يطلق تباعا سلسلة من الوقائع المصممة لاحتواء الخطر وحماية نفسه من الضرر الإضافي. هذه الوقائع تشكل عملية الالتهاب. إن النسيج الملتهب قادر على إتلاف الكائنات الحية المجهرية الغازية (مثل البكتيريا، الفطريات، الفيروس أو الطفيليات) ويتهيأ الالتهاب لإصلاح النسيج المتضرر. عند تشغيل الالتهاب بالشكل المناسب، يعمل كمدافع ضد الضرر أو الخمج.
ولكن لنركز على الجملة الأساسية “عند تشغيل الالتهاب بالشكل المناسب”. بالعودة إلى مثل جهاز الإنذار، نفهم أن جهاز الإنذار الخاطىء يمكن أن يحدث مشاكل كبيرة. فإن إندلع حريق بدون أن ينطلق جهاز الإنذار، سيتحول المبنى إلى رماد. ولكن تقع مشاكل مختلفة إن انطلق الجهاز حتى بدون وجود أي حريق. ففي حال استجاب رجال الإطفاء إلى إنذار خاطىء بالطاقة والعزيمة ذاتهما اللتين كانوا سيظهرونها لو كان الحريق حقيقيا، لكانت تحطمت الأبواب وكسرت النوافذ وأغرقت المياه المبنى في محاولة لإخماد حريق وهمي.
يحدث أمر مماثل في الجسم البشري. إن فشل جهاز المناعة عن إرسال إشارة المساعدة، يمكن أن تخلق البكتيريا والفيروسات مشاكل جمة في جسم عاجز عن الدفاع عن نفسه. وفي حال عمل جهاز المناعة بدون سبب وجيه، قد تؤدي دفاعات الجسم ضد خطر وهمي إلى إحداث أضرار مؤذية. في الواقع، من المعتقد أن يحدث ذلك مع الأمراض المنيعة للذات مثل الذأب أو التهاب الرثواني. فيتعرف الجسم خطأ على النسيج العادي على أنه جسم غريب مطلقا جهاز الدفاع. في خضم عملية هزم هذا العدو الوهمي، تدمر أجزاء سليمة في الجسم. والعامل الأساسي في كل ردود الفعل هذه هو الالتهاب.
ما هو الالتهاب؟
الالتهاب هو حالة شاذة للنسيج الحي تحدث استجابة إلى ضرر أو أذى يحدق بالجسم. إنها عملية جسمانية أساسية وواضحة للعين المجردة لدرجة أن المصريين القدامى كتبوا عن الالتهاب على لفيفات من ورق البردي. أما الطبيب اليوناني أبقراط فعرفه وربطه بالجروح الخمجية. إلا أن الكتابة الأولى الأكثر إتماما حول الالتهاب حدثت منذ حوالى ألفي عام. في كتابه De medicina (حول الطب)، وصف الطبيب الروماني أولوس كورنيليوس سيلزوس الالتهاب بدقة بمؤشراته الأساسية الأربعة: rubor (الاحمرار)، tumor (التورم)، calore (الحرارة) وdolore (الألم). ما زال هذا الوصف قائما حتى اليوم (مع أننا أضفنا بعض التفاصيل إلى هذه المعرفة الأساسية). يتسم النسيج الملتهب أكان ظاهرا أو في داخل الجسم، بالاحمرار والتورم والحرارة والألم.
يظهر الالتهاب من جراء ضرر أو أذى أصيب به الجسم ويبدو أن هذا الأخير يمكن أن يكون حساسا جدا تجاه الأضرار. يمكن أن يحدث الالتهاب كرد فعل على الخمج، الجروح، التعرض إلى مواد كيميائية ومواد مثيرة للحساسية، تمدد النسيج ومعالجته، الحروق، التمزقات والرضوض. أحيانا، يمكن أن تتسبب المواد التي ينتجها الجسم بشكل طبيعي بالالتهاب في ما يسمى بالمناعة الذاتية. وفي ظل الظروف المناسبة، يمكن أن يحفز الإرهاق أو غيره من ردود الفعل العاطفية، الالتهاب لدى البعض.
لا يمكن لأي أمر أن يثير الالتهاب وحسب ولكن في الواقع يمكن أن يتعرض أي عضو أو نسيج للالتهاب. في الطب، تضاف كلمة التهاب إلى الكلمات للإشارة إلى التهاب العضو أو النسيج الذي تمثله هذه الكلمة. لذا، متى رأيت كلمة تنتهي ب-itis يكون الموضوع متعلقا بالالتهاب. فعلى سبيل المثال، إن كلمة rhino اليونانية تعني الأنف، تشير كلمة rhinitis إلى التهاب (البطانة الداخلية) للأنف. كذلك، تدل كلمة arthro إلى المفاصل، فإذا تشير كلمة arthritis إلى التهاب المفاصل. يعاني المصاب بالتهاب المفاصل من ألم وتورم في هذه الأخيرة التي يمكن أيضا أن تتسم بالاحمرار والحرارة. يظهر الجدول 2-1 المصطلحات الطبية لأجزاء مختلفة من الجسم بالإضافة إلى الكلمة التي تصف التهاب هذا الجزء.
يرتبط الألم ارتباطا وثيقا بالالتهاب. يمكن أن تؤدي لمسة خفيفة إلى ألم حاد في النسيج الملتهب. هذا من أحد الأسباب التي تدفع الأطباء إلى نخز ولكز والضغط على مواقع مختلفة من جسمك عندما تكون مريضا. فإنهم بذلك، يحددون مناطق الالتهاب المحتملة. في الطب، الكلمة اللاحقة algia تعني “الألم”. وهكذا، arthralgia تعني “ألما في المفصل”. إن المصاب بالتهاب المفاصل يعاني من الألم في المفاصل ولكن هناك أسباب أخرى لألم المفاصل بالإضافة إلى الالتهاب.
إطلاق الالتهاب
يمكن أن يطلق الالتهاب كل من جهاز المناعة والجهاز العصبي. الأول هو عبارة عن جهاز عضو منتشر في كامل الجسم. وتكون خلايا جهاز المناعة متأهبة فتطوف في الجسم باحثة عن جراثيم، فيروسات، فطريات أو أورام صغيرة لمهاجمتها وتدميرها. يخزن جهاز المناعة “لائحة فعلية” بالبروتينات الخطرة. عند الكشف عن هذه الأخيرة، تطلق خلايا المناعة ناقلات كيميائية تؤدي إلى الالتهاب.
إن الالتهاب الذي يطلقه الجهاز العصبي يدعى الالتهاب العصبي المنشأ. هناك بعض الأنواع من الألياف العصبية المسماة بألياف ج العصبية الحسية والتي تجري في كل الجسم وخاصة في البشرة، بطانة المجرى الهوائي والمسالك المعوية المعدية والبولية التناسلية. عند تنبيهها، تطلق هذه الأنواع من الأعصاب مواد كيميائية تثير الالتهاب في النسيج. إن المواد الكيميائية، الإرهاق الجسدي أو المعالجة الميكانيكية (الضغط على العصب) قادرة كلها على التسبب بالالتهاب بهذه الطريقة. لذا، إن أجهدت عصبا في يدك مثلا بواسطة الحرارة القصوى، قد تلتهب هذه المنطقة من يدك.
كذلك، قد ينتج الالتهاب العصبي المنشأ عن تنبيه الجهاز العصبي المركزي. هنا، تنتقل إشارة كهربائية من الجهاز العصبي المركزي (الدماغ والحبل النخاعي) إلى جزء بعيد من الجسم لتوليد الالتهاب. على سبيل المثال، الربو هو عبارة عن حالة تكون فيها الأنابيب القصبية في الرئة ملتهبة. ندرك أن التنفس في مناطق تحوي مواد كيميائية أو غبار يمكن أن يؤدي إلى الربو عبر تنشيط خلايا المناعة في مجرى الهواء. إلا أن الإرهاق العاطفي يمكن أن يطلق العنان للربو عند إطلاق إشارات عصبية من الدماغ إلى الأنابيب القصبية مما يجعلها ملتهبة. شهدت حالة كهذه خلال عملي كطبيب طوارىء في العاصمة واشنطن (بلدة معروفة بشغفها المطلق لفريق كرة القدم “ريدسكينز واشنطن”). كان علي إنعاش رجل مصاب بالربو وقد عانى بشكل مفاجىء من فشل في التنفس خلال الربع الأخير من مباراة حماسية بين فريقي “ريدسكينز” و”كاوبويز”. وبعد أن استعاد قدرته على التكلم، قال لي “لقد تحمست كثيرا.”
التغييرات الفيزيولوجية خلال الالتهاب
عند انطلاق الالتهاب، تحدث بعض التغييرات الفيزيولوجية الأساسية التي تتسم جميعا بإطلاق الناقلات الكيميائية. أولا، يزداد قطر الأوعية الدموية في منطقة الالتهاب. تحتوي جدران الأوعية الدموية على خلايا عضلية ملساء تتوسع وتتقلص لتغيير حجم الأوعية. عندما تتوسع هذه الأخيرة، من الممكن أن يتدفق المزيد من الدم إلى النسيج الملتهب. ويتسم هذا الأخير بالاحمرار والحرارة بسبب ازدياد تدفق الدم. يعني تدفق المزيد من الدم أن المزيد من الخلايا المنيعة يمكن أن تصل إلى المنطقة لمحاربة الخمج وتتوفر كميات ضخمة من السكر غير المركب (غلوكوز) والأكسجين لتغذية خلايا النسيج الملتهب.
تبيض البشرة الملتهبة أو تصبح بيضاء عند لمسها. ذلك لأن الإصبع يمكن أن يضغط بما يكفي لقطع تدفق الدم إلى النسيج. وقد لاحظ معظمنا هذا الأمر بعد التعرض لسفعة شمس طفيفة. عندما تضغط بإصبعك على بشرتك ثم تبعده، ترى بقعة بيضاء مكان الإصبع. سرعان ما تصبح هذه البقعة حمراء مجددا عند التوقف عن الضغط ويعود تدفق الدم إلى النسيج.
هناك تغيير آخر متعلق بالالتهاب ألا وهو أن الأوعية الدموية في منطقة الالتهاب تصبح راشحة فيتسرب السائل من مجرى الدم إلى أنسجة الجسم. تتألف الشعيريات، وهي الأوعية الدموية الأصغر، من طبقة واحدة من الخلايا تدعى الخلايا البطانية. في النسيج العادي، تجتمع هذه الخلايا معا لتشكل أنبوبا لنقل الدم. تتقلص الخلايا البطانية أو تصبح أصغر كرد فعل على الناقلات الكيميائية التي تم إطلاقها خلال الالتهاب. فيما تتقلص الخلايا، تتوسع الوصلات في ما بينها مما يسمح للسائل بالتسرب من مجرى الدم إلى الأنسجة. يحتوي السائل على البروتينات مثل عوامل التخثر والمضادات التي يمكن أن تساعد على حماية النسيج. ويتورم النسيج الملتهب بسبب تكتل هذا السائل الذي تسرب من الشعيريات والضغط الذي يمارسه هذا السائل الإضافي يمكن أن يسبب الألم.
يمكن أن تكون النتائج مرعبة عندما يتعطل هذا الجهاز. منذ بضع سنوات، عالجنا في كلية برودي للطب حيث أعلم حاليا، امرأة أدخلت إلى المستشفى بسبب إصابتها بمرض نادر وغير عادي يدعى متلازمة التسرب الشعيري. من حين إلى آخر، تفتح الشعيريات في كامل جسم المرأة وتبدأ بالتسرب بدون أي سبب واضح. ويجري السائل من دمها إلى كل الأنسجة في جسمها. كما أن هذا الأخير يتورم ويهبط ضغط دمها إلى مستوى الإصابة بصدمة قلبية وعائية. بعد سلسلة من الأعراض، لاحظت المريضة أن التسرب كان يحصل كلما تناولت لحم الخنزير. في حالتها، ما يستحث التسرب هو التهاب غريب وغير عادي نتيجة تناول لحم الخنزير. وقد تضاءل عدد إصابتها بالنوبات عبر تجنب تناول هذا اللحم.
في حالات الالتهاب الخطيرة حقا مثل عندما تلتهب الأوعية الدموية نفسها، يكون التسرب سيئا جدا لدرجة أن الثغرات بين الخلايا البطانية تكبر بما يكفي لجعل خلايا الدم الحمراء تتسرب إلى النسيج. في هذه الحالات، لن يكفي الضغط بالإصبع لإبعاد خلايا الدم الحمراء. لذا، لن تبيض البشرة الملتهبة عند الضغط عليه بالإصبع. يمكن أن يكون الطفح الذي لا يبيض دليلا خطرا مؤديا في غالب الأحيان إلى مرض خطير مثل التهاب الأوعية الدموية أو خمج مكوري سحائي (خمج جرثومي خطير).
كما أن هناك أثرا ثالثا للالتهاب وهو أن السوائل يمكن أن تتسرب من الأنسجة الملتهبة إلى تجويفات الجسم. من الممكن أن يكون هذا السائل رقيقا وغير مركز أو سميكا وأبيض. إن السائل الرقيق وغير المركز هو الجزء السائل من الدم (السائل المصلي) بدون خلايا الدم الحمراء أو البيضاء. هذا هو نوع السائل الذي قد تراه في نفطة. أما السائل الأبيض السميك فمعروف تحت إسم القيح. ويكون القيح أبيض اللون لأنه مليء بخلايا الدم البيضاء. وهذه الأخيرة المعروفة كذلك باسم الكريات البيضاء تأتي من مجرى الدم وتتسرب خارج الشعيريات. ويقضي عملها بمحاربة الخمج عبر إتلاف العوامل الممرضة (الجراثيم، الفيروس أو الفطريات) والمساهمة في الشفاء من خلال إزالة السموم من نسيج الجسم الذي تضرر بفعل الإصابة.
بالطبع، لو كان ذلك كل شيء حول الالتهاب، لما احتجنا إلى تأليف هذا الكتاب. لكانت مجرد حالة بيسطة تتعلق بشفاء الجسم الذاتي. ولكن تعطل جهاز الإنذار أمر محتوم بوجود عشرات العوامل الكيميائية والخلوية التي تتمتع جميعا بوظائف محددة تحتاج إلى التنسيق مع وظائف الجسم الأخرى. وعندما تسوء الأمور في الجسم البشري، يكتب على المرء المعاناة.
فشل الجهاز
يمكن أن يكون فشل جهاز المناعة أمرا خطيرا. فأحيانا، يفقد الجهاز القدرة على الاستجابة إلى النوبات. إن الداء الأكثر سوءا والذي يسلب قدرة الإنسان على تدمير الجراثيم هو متلازمة العوز المناعي المكتسب (الإيدز). فالفيروس المسبب للإيدز يتمتع بشهية قوية لبعض الخلايا التي تسيطر على الاستجابة المنيعة. وهكذا، يمكن أن يصبح المصابون بالإيدز مجردين من جهاز المناعة المسؤول عن إزالة الخمج ويجعلهم الداء بلا حول ولا قوة فيما يهاجم الجسم عدد من الفطريات والفيروسات والطفيليات التي يقتلها بكل سهولة جهاز المناعة لدى شخص سليم.
كما أن فقدان جزء صغير من الاستجابة المنيعة يمكن أن يؤدي إلى تعطل الجهاز. فعلى سبيل المثال، يوجد دزينة من البروتينات في دم الإنسان تسمى البروتينات المتممة. وتتواجد هذه البروتينات في الدم إلا أنها تبقى عاطلة عن العمل إلى أن يتم تشغيل جهاز المناعة بفعل الخمج.
من ثم، تعمل هذه البروتينات بتسلسل لتشكل تركيبة كبيرة من البروتين تدعى مركب هجمة الغشاء الذي يتخذ شكل أنبوب. يتعلق هذا الأخير بسطح الخلايا المهاجمة ويخلف ثقوبا فيها. تتدفق المياه إلى هذه الثقوب فتتضخم الخلايا وتنفجر مثل بالون منتفخ. يشير فقدان أحد هذه البروتينات المتممة إلى عدم قدرة مركب هجمة الغشاء على التشكل بالطريقة الصحيحة مما يوقع الجسم ضحية إصابات جرثومية خطيرة.
كما ويحدث الفشل عندما يصبح الجسم مضطربا. ومثالا على ذلك الاضطرابات المنيعة للذات والأرج. عندما تدخل البروتينات الغريبة والعوامل الممرضة إلى أجسامنا، تبلغ أحداث الالتهاب الخلايا المتخصصة بالبحث عن الكائنات الغريبة وإتلافها. وفيما تطوف هذه الخلايا في أجسامنا بحثا عن الأجسام الدخيلة، تعترض كل خلية تلتقي بها وتسألها إن كانت خلية صديقة أم عدوة. إن جهلت الخلايا التي تم اعتراضها كلمات المرور، اعتبرت دخيلة وتم تدميرها. في الواقع، إن كلمات المرور عبارة عن بروتينات موجودة على سطح خلايانا واستثنائية لدى كل فرد (باستثناء التوائم المتطابقة). إن السبب في اضطرار من خضع لعمليات زرع أعضاء إلى تناول أدوية فعالة لقمع جهاز المناعة لديه هو أن العضو المزروع يحمل كلمة مرور لعضو شخص آخر. يرفض الجسم العضو المزروع لأن جهاز المناعة نجح في مهاجمة العضو المزروع الدخيل وتدميره على حساب متلقي العضو.
أحيانا، يتعطل نظام كلمة المرور وتخطىء الخلايا المنيعة في التعرف على خلايا الجسم فتحسبها دخيلة محاولة القضاء عليها. تستخدم عبارة الأمراض المنيعة للذات (الذاتية المناعة) لوصف الاضطرابات التي يعالج فيها الجسم أنسجته الخاصة على أنها غريبة ويدمر الخلايا الطبيعية السليمة. يعتمد نوع الداء المنيع للذات على نوع الاستجابة والأنسجة التي تمت مهاجمتها. على سبيل المثال، في حال هجوم الخلايا المنيعة على بطانة المفاصل، يتكون عندئذ داء التهاب المفاصل الرثواني. ولكن في حال الهجوم على الأغلفة النخاعية المحيطة بخلايا الأعصاب، يتكون داء التصلب المتعدد.
تحدث الحالات الأرجية عندما يبالغ جهاز المناعة في رد الفعل، والحساسية الكيميائية هي خير مثال على مبالغة الجهاز العصبي في رد الفعل. عادة ما تكون المواد التي تثير الأرج مثل الغبار، الهبرية الحيوانية، التراب وغيرهم غير مؤذية. ولكن جسم المصاب بالأرج لا يرى الأمر على هذا النحو. فحجم ذرة الغبار هو بحجم الجرثومة ويحمل الغبار بروتينات على سطحه، مثل الجراثيم. ولكن خلافا لهذه الأخيرة، لا يمكن لذرة الغبار أن تنمو وتتكاثر. لذا، ما من سبب يجعل الجسم يشن هجوما على ذرات الغبار. ولكن بالنسبة إلى البعض الآخر، تعالج ذرات الغبار المستنشقة تماما مثل الجراثيم ويحاول الجسم تدميرها من خلال شن هجوم بواسطة جهاز المناعة كما قد يفعل لمواجهة فيروس خطر. فيكون الأرج النتيجة مع التهاب مألوف لمجرى الهواء (التهاب الجيوب الأنفية) والإصابة بالربو. كذلك، يمكن أن تؤدي حالة أرجية بسيطة إلى ردود فعل التهابية أخرى بما في ذلك تورم البشرة، اللسان، الحلق والحبال الصوتية بالإضافة إلى الطفح الجلدي أو الشرى، التعب، الفتور، الصداع والاكتئاب.
أحيانا يقع أمر مماثل مع الحساسية تجاه المواد الكيميائية، والتي تحدث عندما يستجيب الأشخاص بفعالية تجاه المواد الكيميائية في البيئة التي تكون بنسب ما دون درجة السمية. تتفاعل هذه المواد مع المستقبلات على الخلايا العصبية ما يحثها على إطلاق مواد كيميائية تؤدي إلى الالتهاب. يمكن أن تشمل الأعراض المتعلقة بالالتهاب الاحتقان الأنفي، ألم في الجيب، نوبات صداع، طفح جلدي، أعراض معوية معدية، آلام في العضلات والمفاصل، التعب، الفتور والاكتئاب.
انتقال الالتهاب من موقع إلى آخر
من أكثر جوانب الالتهاب إثارة للاهتمام هو قدرته على التمتع بآثار متعددة على الجسك بأكمله. عندما يتلقى شخص لكمة على وجهه، من البديهي أن يتورم الوجه وليس القدم. إن تلقى سخص لكمة في الوجه وتورمت قدمه، سنستغرب الوضع بالتأكيد. يمكن أن يعمل الالتهاب بغرابة.
يحدث الالتهاب في موقع الإصابة ولكن يمكن أن تلتهب أعضاء أخرى أحيانا. مثالا على ذلك، السيلان هو عدوى جرثومية تنتقل جنسيا فيصيب الأعضاء التناسلية ولكنه يمكن أن يؤدي أيضا إلى التهاب المفاصل من دون إصابة المفاصل. والأكثر غرابة هي حالة امرأة أحيلت إلى المستشفى لمعالجة ما ظن أنها لسعة عنكبوت بني سام. وكانت تعاني المرأة من قرحة كبيرة وقبيحة على برجمة السبابة في يدها السائدة فبدت متآكلة حتى المفصل. كما أنها خضعت لعلاج لبثرة على المؤخرة وقد شقها حديثا طبيب جراح. ووصل بلاغ من الجراح الذي أحالها إلي يقول فيه إن اللسعة كانت بالغة التعقيد بالنسبة إليه وإعتقد أنها بحاجة إلى عناية جراح تجميلي. عاينت القرحة بشك وسألتها إن رأت العنكبوت يلسعها. إلا أنها لم تذكر أنها تعرضت إلى لسعة. من الممكن أن يؤدي اضطراب التهابي في موقع ما إلى ظهور قرحة أو أكثر على البشرة في موقع آخر. يمكن أن يحدث ذلك مع الإصابات الخمجية والأورام وأمراض الأمعاء الالتهابية. في هذه الحالة، أدت البثرة في المؤخرة إلى قرحة عميقة ومؤلمة على اليد، وهي حالة كلاسيكية لانتقال الالتهاب من موقع إلى آخر أطلق عليها اسم متلازمة سويت تيمنا باسم أخصائي الجلد البريطاني الذي كان أول من اكتشف الظاهرة.
إن انتقال الالتهاب من موقع إلى آخر هو عملية شائعة في حالات الأرج والحساسية تجاه المواد الكيميائية. كما أن التأق (فرط الحساسية) الجهازي (نوبة أرجية) هو حالة أرجية خطيرة تحدث عندما يخضع كامل الجسم إلى ردة فعل أرجية عادة بعد التعرض للدغة نحلة، بعد تناول طعام مثل الفول السوداني أو بعد تناول دواء يعاني الشخص من الحساسية تجاهه. يمكن أن تمتلىء البشرة بكاملها بالطفح في غضون دقائق. تخضع الرئتان لنوبة ربو مع بروز المخاط وإصابة الأنابيب التنفسية بالتشنج مما يؤدي إلى مخمصة الأكسجين. وتتوسع الأوعية الدموية في الجسم كله ويتسرب السائل إلى الأنسجة وفي حال تورمت الحبال الصوتية، يصبح الاختناق وشيكا. كذلك، يهبط ضغط الدم فيما تتسارع نبضات القلب. وتدخل الضحية في نوبة وقد تواجه خطر الموت.
كيف يعقل أن سم النحلة أو البروتين في الفول السوداني ينتشر في أنحاء الجسم بسرعة كبيرة؟ في الواقع، لا يفعل. ما يحدث في النوبة الأرجية هو أن الخلايا المنيعة تطلق الهستامين، وهو أحد المواد الكيميائية في مخزن جهاز المناعة، فيتعلق بالأعصاب حول موقع لدغة النحلة أو حيثما تلمس بروتينات الفول السوداني جدار المعى. ترسل هذه الأعصاب إشارة إلى الدماغ الذي يطلق بدوره جهاز الإنذار للجسم كله. تطلق الأعصاب في الجسم كله ناقلا كيميائيا يدعى المادة P فترتبط هذه الأخيرة بالخلايا المنيعة الأخرى في كل أنحاء الجسم وتجعلها تطلق مخزونها الخاص من الهستامين بالإضافة إلى مواد أخرى مؤدية إلى الحساسية. يعتقد العلماء أنه متى تعرض الجسم لإصابة في موقع ما ونتج عن ذلك التهاب في موقع آخر، يكون هذا النوع من الانتقال العصبي المنشأ مرتبطا بالأمر. أيمكن أن يكون ذلك القاعدة لروابط الالتهاب من بين العديد من الأمراض المختلفة؟ لا شك أن العلماء سيحققون في هذه الإمكانية في المستقبل.
نهاية الالتهاب
خلال مراحل حياتنا، تحتمل أجسامنا الإصابة تلو الأخرى. فتؤذينا الأمراض المعدية والجروح والكدمات والأورام والحروق. كما أن أنسجة الجسم يمكن أن تتضرر بدون إمكانية ترميمها وتتعطل وظيفة العضو الحيوية. وعلى الرغم من كل هذه الإصابات، إلا أن أجسامنا صلبة. فقد خلقت لتقاوم وتحيا وتشكل عملية تنظيف الفوضى وترميم الضرر جزءا من ذلك.
يرتبط ترميم النسيج ارتباطا وثيقا بالالتهاب لدرجة أن عملية الترميم يمكن أن تعتبر نهاية الالتهاب. في عملية ترميم الجرح، تنتقل اللمفيات (نوع من خلايا الدم البيضاء) والخلايا الالتهابية الأخرى إلى نسيج متضرر وتطلق عوامل نمو لبدء عملية الترميم. تتغير الوحيدات وهي خلايا دم بيضاء أخرى لتصبح بلاعم فتزيل الخلايا الميتة والبقايا الأخرى لإفساح المجال لخلايا سليمة جديدة بالترميم والنمو والانقسام.
ينمو وينقسم نوعان من الخلايا وهما الخلايا البطانية والأرومات الليفية لسد الثقوب التي خلفها النسيج المتضرر. تشكل الخلايا البطانية البطانة الداخلية للأوعية الدموية. يعتبر هذان النوعان من الخلايا مهمين لأن عملية سد ثقب بنسيج حي تتطلب مخزونا من الدم. تشكل الأرومات الليفية نوعا متخصصا من الخلايا التي تزحف نحو الأماكن المصابة حيث تنمو وتنقسم وتنتج خيوطا من مادة صلبة تدعى المادة القاعدية البرانية لسد الفراغ مثلما نستخدم المعجون الخاص بملء الشقوق في الجدران.
تنتج الندبة عن عملية الشفاء. كل من أصيب بجرح أو كشط سيىء يخلف ندبة واضحة على بشرته لبقية حياته. كما أن الأنسجة المتضررة داخل جسمنا تترك أثرا حتى لو كنا لا نراه. مثلا، بعد التعرض لنوبة قلبية، يتم استبدال عضل القلب الميت بنسيج الندبة. وبعد السكتة، يستبدل هذا الأخير بنسيج دماغي. على الرغم من تماثل الجرح الحالي للشفاء، إلا أن نسيج الندبة يسد الفراغ وحسب فلا يعمل مثل النسيج الأصلي. لا تساعدنا ندبات الدماغ على التفكير بالطريقة الصحيحة فيما لا تساعد ندبات القلب الدم على التدفق عبر الجسم.
كذلك، يمكن أن تتعطل عملية الشفاء. فمن المحتمل أن يسد نسيج الندبة مكان الفراغ إلا أنه يستمر في الالتصاق في كل أرجاء العضو أو حتى الجسم بكامله. وأحيانا، يهتاج نسيج الندبة في الجسم. ومثالا على ذلك داء تصلب الجلد حيث يستبدل النسيج العادي بنسيج الندبة بدون أي سبب يذكر. فتصبح البشرة والرئتان والأعضاء الأخرى صلبة. عند معاينة هذه الأنسجة تحت المجهر، تبدو تماما كالندبة. وفي النهاية، قد تتعطل أعضاء الجسم بسبب انتشار الندبات. ويتوضح مثل آخر في حالة امرأة متقدمة في السن جاءت إلى قسم الطوارىء تشكو من ألم حاد في ذراعيها وساقيها. فكانت قد وقعت منذ أسبوعين وأصيب فخذها الأيسر بكدمة. تعافت الكدمة بشكل رائع إلى أن بدأت تشعر بألم حاد. تفاجأت عند معاينتها. فقد كان هناك جسما طويلا وصلبا كالصخر في عضلة فخذها موازيا لعظمة الفخذ. كشفت صور الأشعة عن تحول العضلة المصابة بالكدمة إلى عظم. تعرف هذه الحالة باسم التهاب العضل المعظم أي “العضل الملتهب الذي يتحول إلى عظم”. في عملية الشفاء، أصبح الجسم مضطربا وتعافى العضل على أنه عظم. إنها حالة شديدة الألم غالبا ما تحل تلقائيا ما إن يكتشف الجسم خطأه.
المضي قدما
عادة، يجب أن يخف الالتهاب عند إتلاف العوامل الممرضة أو عند معالجة الإصابة ومعافاة النسيج. عندما يموت الفيروس الذي يسبب الزكام العادي، يختفي الالتهاب من المجاري الأنفية. وعندما يتعافى الجرح على ذراعك، يخف التورم والاحمرار. وتتوقف الناقلات الكيميائية عن إطلاق جهاز الإنذار فيما تحمل الأوعية الدموية والجهاز اللمفوي كل من السائل الزائد والعوامل الممرضة الميتة والخلايا المتضررة وخلايا الدم المتسربة بعيدا عن موقع الالتهاب. لقد أزيل الخطر وتم ضبط الضرر واستعاد الجسم صحته.
للأسف، لا يصح ذلك دائما. عندما يفقد الجسم توازنه، يمكن أن يبالغ في رد الفعل، أو يتوقف عن العمل، أو ينقلب ضدنا أو يستمر في المكافحة كل يوم فحسب بحيث يستمر الالتهاب بشكل غير محدد. في أي حالة، ليست النتائج الصحية الطويلة الأمد بجيدة.
كما أنه من الصعب أن تعود الأمور إلى طبيعتها إن سببت نوبة الالتهاب تغييرا دائما خاصة أن تغييرات تحدث بعد كل نوبة التهاب. وأحيانا تكون التغييرات صغيرة جدا لدرجة عدم ملاحظتها أو إحداثها أي فرق، وأحيانا أخرى تكون كبيرة بما يكفي للتسبب بمرض. مثلا، يمكن أن يختبر المصابون بربو حاد وغير معالج حالة معروفة باسم إعادة تشكيل المسلك الهوائي حيث تتغير خلالها البنية الفيزيولوجية الحالية للرئة استجابة إلى ضرر متكرر من الالتهاب. هناك مثل آخر وهو عندما يؤدي الالتهاب بالجسم إلى بدء عملية نمو أوعية دموية جديدة تدعى عملية تكون الأوعية مما قد يسهم في ظهور أمراض مثل السرطان، الصداف وغيرهما من الأمراض الالتهابية الأخرى.
وكأن أجسامنا ليس لديها ما يكفي لتكافحه، فعامل التقدم في السن يغير ردود أفعالنا تجاه الالتهاب. فيما نتقدم في السن، نبدأ بإفراز المزيد من بعض الجزيئات المؤيدة للالتهاب والقليل من بعض الجزيئات المضادة له. في عملية التوازن العظيم بين الالتهاب ومضاد الالتهاب، تتكدس العوامل لصالح الالتهاب. هذا يعني أنه علينا البدء بمنح امتياز لمسألة العمر والعمل بجهد أكثر لصد الالتهاب.
يبدو أن الالتهاب مرافق لنا على الدوام. اختر حالة أي شخص وستجد أنها مرتبطة بالالتهاب بطريقة ما. فالزكام العادي سببه التهاب المسالك الأنفية. ولسعة البعوضة تؤدي إلى التهاب البشرة. وسبب النوبة القلبية هو التهاب الأوعية الدموية المؤدي إلى الاحصار. فيما تنتج الشقيقة عن التهاب الأوعية الدموية في الدماغ، والربو عن التهاب الأنابيب القصبية في الرئتين. حتى إن الالتهاب يؤدي إلى أشكال عدة من داء السرطان. أما الأمراض المنيعة للذات فجميعها ناتجة عن عطل في جهاز الإنذار عن حالة الالتهاب في الجسم. كما ويرتبط داء التهاب المفاصل وداء السكر والاكتئاب والتعب بالالتهاب.
على الرغم من كون الالتهاب عملية طبيعية، إلا أنه يجب أن لا يشكل جزءا ثابتا من حياتنا. فهناك دائما خطر ضمني من الإصابة بالمرض استنادا إلى تركيبتنا الوراثية بشكل جزئي. إن كان لديك تاريخ عائلي مع داء القلب، فهذا يعني أنك تعاني من مشكلة داخلية مع التهاب الأوعية الدموية. لا يمكنك تغيير الجينات التي ولدت معك، إلا أنك تستطيع تغيير أمور أخرى في حياتك لتقليص نسبة الالتهاب الإجمالية مما سيساعدك على حماية قلبك (بالإضافة إلى أجزاء أخرى عديدة من جسمك). لهذا السبب، ينصحنا الأطباء بتناول الأغذية الصحيحة ليس لأنهم ساديون ولكن لأن الفواكه والخضار معروفة بخواصها المضادة للالتهاب. لذا، نعم إن تناول الأغذية الصحيحة سيقلص نسبة تعرضك للإصابة بالالتهاب وسيجعل صحتك أكثر سلامة. ولكن هناك الكثير من الأمور الإضافية التي يمكنك فعلها أيضا لتخفيف مخاطر الالتهاب. إن أنواع المواد الكيميائية التي تستخدمها لتنظيف منزلك، ونوع السجاد فيه وعدد المرات التي تغسل فيها ملابسك وحالتك النفسية وأسلوب الحياة الذي تختاره، كل ذلك يؤثر في المعدل الكلي للالتهاب في جسمك.
إن القرار قرارك في ما يتعلق بالتغييرات الصحية التي تود إحداثها. أمامك الكثير من الخيارات. أحدث تغييرا أو أكثر. فكل تغيير سيحدث فرقا في طريقة شعورك وقد ينقذ البعض منها حياتك.
جدول مصطلحات خاصة بالتهاب أجزاء مختلفة من الجسم
Arthro- = مفصل
arthritis = التهاب المفاصل
Brocho- = أنابيب قصبية
bronchitis = التهاب الأنابيب القصبية
Cardiac = قلب
carditis = التهاب القلب
Cerebro- = دماغ
cerebritis = التهاب الدماغ
Choleo- = مرارة
cholecystitis = التهاب المرارة
Conjuctiva = بطانة العين الخارجية
conjunctivitis = التهاب بطانة العين الخارجية
Dermis = بشرة
dermatitis = التهاب البشرة
Gastric = معدة
gastritis = التهاب بطانة المعدة
Hepato- = كبد
hepatitis = التهاب الكبد
Myo- = عضلة
myositis = التهاب العضل
Nephro- = كلية
nephritis = التهاب الكلية
Neuro- = عصب
neuritis = التهاب الأعصاب
Osteo- = عظام
osteitis = التهاب العظام
Periodontal = اللثة
periodontitis = التهاب اللثة
Pneumo- = رئة
pneumonitis = التهاب الرئة
Salpingo = أنابيب بوقية
salpingitis = التهاب البوق
Vagina = مهبل
vaginitis = التهاب المهبل
Vascular = وعاء دموي
vasculitis = التهاب الأوعية الدموية
تأليف: د. ويليام جويل ميغز