الطبيب ورسالته الاجتماعية

زائر
الطبيب ورسالته الاجتماعية
بقلم الدكتور غسان شحرور
D. Ghassan Shah
يزداد البعد الاجتماعي للصحة يوما بعد يوم، إلى درجة ينظر البعض فيها إلى الصحة على أنها قضية اجتماعية، ولم لا فالصحة تتعلق بالبيئة، والعمل، والفقر، والعادات الاجتماعية، ونظام الخدمات، ومستوى التعليم والثقافة، وغيرها، وفي كل مجتمع تزداد أمراض معينة، وتختفي أخرى، وهكذا تتوقف على خصائص هذا المجتمع وطبيعته، ولم أجد جديدا في التوجه الأخير لخبراء الصحة في الحديث والبحث عن المحددات الاجتماعية للصحة

إن هذه المقاربة الاجتماعية للصحة، تؤكد على الدور المجتمعي للطبيب في التفاعل مع العوامل الاجتماعية المختلفة وأخذها بعين الاعتبار عند ممارسة عمله، فهو أولا وأخيرا جزء من المجتمع، وكذلك المريض والمرض، فكيف يكون الحال إذا ما اختار الطبيب أن يقوم برسالة خاصة تجاه مجتمعه وشرائحه الإنسانية والاجتماعية المختلفة.
نعم .. ما أجمل أن يكون للطبيب رسالة مميزة في حياته، يسعى إلى إنجازها، وتحقيق شروط نجاحها، يتخطى من خلالها أسوار عيادته، وحدود جمهوره الصغير، ليصل إلى مجتمعه الكبير، جاعلا من حياته المهنية، ومعارفه، وخبراته، إضافة قيمة، مهما صغرت، من أجل خدمة أبناء مجتمعه، وخير وطنه.

هذا ما سعى إليه زميلنا المرحوم الدكتور غسان حتاحت، في مسيرة زادت عن ثلاثين سنة، مارس خلالها طب الأطفال، ونسج أطيب العلاقات مع زملائه ومرضاه، و نشر خلالها مئات ومئات المقالات الصحية في العديد من المجلات الثقافية والصحية والاجتماعية على امتداد الوطن العربي، تصدى من خلالها إلى العديد من القضايا والمواضيع الصحية والاجتماعية التي تهم الإنسان العربي في كل مكان.
تخرج الدكتور حتاحت من كلية الطب جامعة دمشق عام 1969، وبعدها أتم دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تخصص في طب الأطفال، ولم يكتف بذلك بل تخصص أيضا، في علم الوراثة والتشوهات الصبغية، وما تسببه من إعاقات وأمراض عديدة، وأظهر اهتماما خاصا بمشاكل واضطرابات التعلم عند الأطفال: أسبابها وتدبيرها، عاد بعدها إلى وطنه، وظل يمارس الاختصاص منذ عام 1975 حتى ودعته دمشق في 26-6-2006.
لقد حفلت حياته بمحطات بارزة في ميدان العمل المهني والاجتماعي، فقد أسهم الدكتور حتاحت، مع بعض زملائه، في تأسيس جمعية أطباء الأطفال السورية عام 1977، وكان عضوا فاعلا في مجلس إدارتها التأسيسي، ثم أمينا للسر، حيث شارك في تنظيم العديد من الندوات، والمؤتمرات، والمحاضرات التي أغنت بدورها طب الأطفال، وقدمت يد العون إلى طلاب الطب، والدراسات العليا والممارسين لهذا الاختصاص الواسع
لقد أثارت كتاباته اهتمامي، لأنني أكتب أيضا في العديد من المجلات والصحف العربية، وكنت أتابع عن كثب، ما يكتبه الزملاء في هذا المجال، للإطلاع تارة، والاستفادة من تجاربهم وأسلوبهم تارة أخري، وقد أعجبت بالزوايا التي كتبها الدكتور حتاحت، والتي غطت العديد من المواضيع الصحية والإنسانية والاجتماعية، لاسيما جوانب الوراثة عند الأطفال، ومشاكل التعلم لديهم، وعلاقة الطبيب معا مريضه ومجتمعه، والزمالة بين الأطباء وغيرها.
استخدم الدكتور حتاحت ببراعة وإتقان ما مر به من أحداث ومواقف، أثناء دراسته للطب، وبعدها، أثناء ممارسته المهنية، وصاغها على شكل حكايات وخواطر وطرف، مستفيدا من ولعه بألوان الأدب، وعلوم القرآن، وقام بنشرها بلغة بسيطة وسليمة في العديد من المجلات المحلية والعربية، حملت في طياتها رسائل صحية واجتماعية وأخلاقية قيمة، دعت إلى الوقاية من الأمراض الوراثية، والمعدية، وبينت أهمية الوعي والسلوك الصحيين في النهوض بصحة الفرد والأسرة والمجتمع، كما دعت إلى السمو بالممارسة الطبية في وجه مجتمع استهلاكي لا يرحم. لقد جذب قلم الدكتور حتاحت، بفضل ما اتسم به، من صدق وموضوعية، وبفضل روح المرح والدعابة التي أضافها، اهتمام القاريء العربي الذي وجد في ما يكتبه من حكايات وخواطر ومواقف، الكثير من الفائدة والمتعة.
لازلت أذكر العديد من هذه الحكايات مثل: الحب والوراثة، أطباء.. وسماعاتهم المدهشة، ذكريات عن الطب والبترول، خشداشية الطبّ، طبيب قنوع، طبيب أطفال .. يتذكر، عندما يزور شيطان الشعر الطبيب!، قصة أول مقالة، عندما يتعثر الأطفال في التعليم، ولازلت أذكر أيضا العديد مما كتب في زاويته خواطر طبية، وزاويته مذكرات طبيب، بالإضافة إلى العديد من المقالات التي وضعها في متناول القراء الذين أقبلوا عليها باهتمام وشغف بالغين.
لقد اختار أن ينشر الكثير من مقالاته في مجلات ثقافية اجتماعية تهم الجمهور الواسع، ساعيا إلى الوصول إلى أوسع شرائح المجتمع، من هذه المجلات: "العربي"، "الجيل"، "الدوحة"، و"الفيصل" وغيرها، بالإضافة إلى المجلة الصحية الاجتماعية "طبيبك". كذلك شارك في أكثر من برنامج إذاعي وتلفزيوني ثقافي واجتماعي، الأمر الذي ساعده على إيصال الرسالة الاجتماعية للطب والصحة بشكل ناجح.
لقد عالجت هذه الحكايات والخواطر الطبية، العديد من المشاكل التي يواجهها الطبيب، والمريض، والمجتمع بشكل عام، وهكذا أضحت عن جدارة أداة قيمة للتثقيف الصحي الاجتماعي، بفضل ما تملكه من تأثير مهم في سلوك الفرد والأسرة، وقدمت مثالا حيا ناجحا لدخول الطبيب إلى عالم المجتمع وعالم الصحافة والإعلام من أبوابها الواسعة، كما بينت، إلى جانب ذلك، قدرة اللغة العربية على استيعاب العلوم العصرية، ونجاحها في نشر الثقافة الصحية بين أفراد المجتمع.

نعم .. عشق الدكتور حتاحت اللغة العربية، وأجاد استخدامها في إنجاز رسالته، رسالة التثقيف الصحي الاجتماعي، وبرهن بذلك أنه ابن وفي لكوكبة كلية الطب في دمشق، التي برز دورها الطليعي منذ إصدارها المجلة الطبية عام 1924، والتي ظلت نحو عشرين سنة منبراً للنخبة المثقفة الرائدة المؤمنة بأصالة اللغة العربية وغناها، وقدرتها على استيعاب العلوم العصرية، ونشرها في جميع الوسائط المقروءة والمرئية والمسموعة، لخدمة الطب والأطباء في البلاد العربية، وكذلك قدرة هذه اللغة على نشر الثقافة الصحية الاجتماعية بين أفراد مجتمعنا العربي الكبير.

حقا إنها حكايات وخواطر لا تنتهي.. الدكتور حتاحت.. أستودعك الله برحمته.
 

زائر
أدخل الله الدكتور غسان فسيح جناته
وبارك الله فيك على ذكر محاسنه ..smie1;
 

زائر
الله يرحم جميع موتي المسلمين جزاكم الله خير.