زائر
بسم الله الرحمن الرحيم
لا تتعجل واقرأ؟
الطب والتمريض ليست مهن إنسانية ..!!؟
مقدمة ضرورية :
شاع كثيرا بين الناس بل وبين الكوادر الطبية أن الطب والتمريض هي مهن إنسانية ، وصار مألوفا أن تسمع مثل هذه العبارات : أنت مهنتك إنسانية ، ويجب عليك أن ... ، مفروض أن تقوم بكذا أو تعمل كذا لان مهنتك إنسانية ... ، أو يخبر عن موقف حصل معه في مستشفى فيقول : لما أتيت له وأنا احمل طفلي لم يقم فورا ، حتى انه قال ضعه على السرير وبكل برود قام يفحصه ، ... يا رجل صدقني أن ثلثيهم ما عندهم إنسانية ... ؟
كان ما سبق مقدمة ضرورية لإنعاش ذاكرتكم مع المواقف التي ربما مرت بكم كعاملين في الحقل الطبي أو متابعين.
وصدقوني لو قلت لكم أن 90 % من المشاكل الحاصلة في المستشفيات سببها هذا المفهوم المغلوط .. والسبب ببساطة أن الطب والتمريض هي مهن ليست إنسانية ؟ كيف ؟ لا تتعجل واقرأ؟
ربما تبادر إلى ذهن كل من قرأ عنوان المقالة الاستنكار أو قال مجاوبا نفسه : لا ! ، بل الطب والتمريض مهنتين إنسانيتين ، وكان الأولى أن نتفق جميعا على تعريف مصطلح " إنسانية " ؟ ثم نبحث في المرحلة التالية عن هذا السؤال " هل أن الطب والتمريض مهن إنسانية؟ بناءا على التعريف الذي نصل إليه ، وهذا الأسلوب من أخطائنا الدارجة في النقاش ، مثل من يناقش صاحبه هل يوجد سعادة أو إنسان سعيد ، مع أن الأولى أن نبحث مفهوم السعادة ويتفق عليه الاثنين على الأقل ثم نبحث " هل يوجد سعادة أو إنسان سعيد ؟ " بناء على التعريف ، لا أن نجيب بنعم أو لا أو بين بين. دون اتفاق على تعريف مفهوم المصطلح محل النقاش.
وعودة إلى موضعنا محل النقاش لنحاول تعريف مصطلح " إنسانية " : ودعوني اطرح هذه الأسئلة للمحاولة إلى الوصول إلى إجابة متفق عليها ولو بالأغلبية:
إذا كان التمريض والطب مهن إنسانية ! فما هو حال رجال المطافئ ، أو الشرطة التي تحفظ النظام أو القضاة أو حتى سائق سيارة الإسعاف ، بل والخباز والمزارع ، ..... والقائمة طويلة. وقد يجيب أحدكم ، لا ، بل المقصود أنهم يتعاملون مع الإنسان في حالة ضعفه وحاجته أو حالة الحياة والموت ، والجواب على هذه المسالة : إذن ما نسمي رجال الدفاع المدني الذين يتعاملون مع الحدث في لحظة السخونة الأولى ، أو الشرطة الذين يكاد ينطبق عليهم الوصف في مثل ردع مجرم يتخذ رهينة مهددا بقتله؟
وقد يجيب البعض ولكن الطب والتمريض ملامس لنفس وجسد الإنسان أكثر من المهن الأخرى؟
وإذا كان جوابك مثل هذا ( أو بما معناه ) فأنت على الأقل تعترف أن هناك مهن أخرى تشاركك صفة الإنسانية - الغير معرفة ومحددة لحد الآن - ولو بدرجة اقل ، أليس كذلك ؟
ومهما حاولت أن توجد حالة يتفرد بها الطب والتمريض تستحق أن يطلق لأجلها صفة الإنسانية على مهنتي الطب والتمريض ستجد أن مهن أخرى قد تشترك بها ولو بدرجة ما؟
لذلك دعونا ننتقل لمحاولة تعريف الإنسانية :
الإنسانية برأيي هي : الخلق الطيب في التعامل واستحضار ظرف الطرف المقابل عند التعامل معه والتصرف على أساسه من منطلق كونه إنسان لا غير. والخلق الطيب في التعامل مثاله الأعلى سيدنا رسول الله (ص) ، ومن احد دلالات الخلق الطيب هي الالتفات بجسمك كله عند الحديث مع الشخص المقابل ، والإنصات الجيد ( يدخل في ذلك مهارات الاتصال ) ، أما استحضار ظرف الطرف المقابل عند التعامل معه فيكون مثلا إذا كان مفجوعا بميت أن تظهر له ( ولو تمثيلا ) ما يظهر تأثرك ، تماما كمن يذهب يعزي في ميت ، فهو ينتقي العبارات المناسبة ويظهر الجدية ، وليس مطلوبا منه أن يحزن؟ لان الجرح لا يؤلم إلا صاحبه. وعلى ما بين قوسين ( ولو تمثيلا ) ، قال الشاعر :
فتشبهوا بالكرام إن لم تكونوا ..... مثلهم ، إن التشبه بالكرام فلاح
الآن ، وبعد أن وضحنا مفهوم مصطلح الإنسانية ، دعونا ننتقل إلى الجزء الأخطر ، لماذا ليس التمريض والطب مهن إنسانية؟
السبب ببساطة لان المهنة بحد ذاتها لا توصف بأنها إنسانية أو غير إنسانية ، ذلك أن الإنسانية هي وصف للإنسان نفسه وليس للمهنة ، فالمهنة هي مهنة ليس غير ، لذلك يجب أن نقول : هذا طبيب إنساني أو ممرض إنساني، ونقصد أن تعامله إنساني ، والعكس صحيح . وهذا ينطبق على باقي الناس مهما اختلفت وظائفهم ومواقعهم ، فهذا الذي يعمل موظفا على حدود برية وتفهم حاجتي الملحة لإنجاز معاملتي بأقصى سرعة كوني يجب أن اصل في الوقت المحدد لمكان كذا وإلا فقد اخسر كذا ؟! ، هو إنساني لان تعامله إنساني ، والشرطي الذي اخذ الشكوى على محمل الجد وتفاعل معي هو إنساني ، وقس على ذلك.
ومن هنا ، لا يجب أن تقول لطبيب أو ممرض لم يعاملك بإنسانية انه يجب عليه كذا ، لان مهنته إنسانية ، كما بينا ، بل هو شخص غير إنساني بغض النظر عن مهنته ، لذلك ليس غريبا أن تجد طبيب سيئ الخلق أو ممرض سيئ الخلق ، فالمهنة بحد ذاتها لا توجد خلقا لدى من يعمل فيها ، حتى لو اقسم ألف يمين على فعل كذا وترك كذا ، بل الذي يوجد الإنسانية لديه هي مجموعة القيم التي يحملها كطبع في ذاته ، أو يتصنع بها كقول الشاعر السابق ذكره.
وانه وإن كان التصنع مقبولا فهو على وجهين؟ الأول : حسن خلق ، كاستحضار ظرف الطرف المقابل عند التعامل معه ، والثاني مصلحة : كمن كان سيئ التعامل كطبع به عندما كان طبيبا أو ممرضا في مستشفيات الدولة ، ثم إذا عمل في القطاع الخاص اصطنع حسن التعامل ، وهو لا شك يوما ما سيكتشف أمره فينطبق عليه قول الشاعر :
إذا رام التطبع نازعته ...... طبائعه إلى الخلق القديم
ولكن مع ذلك يعتبر التصنع محمودا وان كان مصلحة – والله اعلم بالنوايا-
وحتى لا يفهم الموضوع خطأ ، ألخص الفكرة كالتالي : الأمر يتعلق بتصحيح مفهوم ، أي مدى انطباق الصفة على الشيء ، أو عدم انطباقها ، بل ، وهل الصفة ملك هذا الشيء؟ أم ليست ملكه أصلا ، فالموضوع هو : الإنسانية صفة للإنسان وليست للمهنة ؟
ولا أقول " لا تكن إنسانيا " بل عكس هذا ما أحاول أن أثبته ، أي : أنت إنساني لأنك أنت ،لا لأنك طبيب ، ولا لأنك ممرض ، بل لأنك أنت كانسان في جميع الظروف وفي كل المهن ، وأيضا لان دينك يطلب ذلك منك، قال صلى الله عليه وسلم " أقربكم مني يوم القيامة احاسنكم اخلاقا" ويقول صلى الله عليه وسلم " إنما الدين المعاملة" وهي صفة يا حبذا تكن في الطبيب أو الممرض كطبع فيه أو تخلق ( تصنع ) وهما بها أجدر وأجمل ، وانك إن أخذتها كصفة للمهنة ومضيت على ذلك ، وقبلت تصرف الآخرين معك على هذا النحو ، فثق انك ستصل إلى نقطة بعد ممارسة ليست بالطويلة إلى الهروب وربما التخلي عن هذه الصفة ، ذلك انه قد يدغدغ مشاعرنا ثناء الناس علينا بصفة المهنة الإنسانية أو ملائكة الرحمة؟
ولكن إن أنت عرفت حقيقتها وحقيقة العلاقة بين الإنسانية والمهنة ، فأنت غالبا ستتخذ جانب الإنسانية كصفة لك كانسان وستبقى معك للأبد خصوصا إذا عززتها بآخرتك وعلمت أن الكلمة الطيبة لك عليها اجر " تبسمك في وجه أخيك صدقة" ، - واتقوا النار ولو بشق تمرة - وإنني عندما طرحت هذا الموضوع ، لم اطرحه ترفا ، بل لأني رأيت انه خلق حاجزا بين المريض والكادر الطبي عموما أكثر منه فتح أبوابا.
فعندما يتوقع منك المريض بل أكثر من واحد معا ، أن تكون أكثر مما تستطيع بحكم أن مهنتك إنسانية، فان النتيجة ستكون عكسية تماما. فهم لن يتقبلوا منك إلا طريقة الناس العاديين البعيدين عن طبيعة المهنة ومشاهدها وظروفها والذين تحركهم اللهفة وتوقع التعامل كحنين الأم على طفلها؟
والتمريض مثلا قبل أن يصبحوا في مثل هذه المهنة عندما كانوا ما زالوا يحملون نفس ذلك المفهوم وتلك اللهفة قد مروا بتلك القصص التي عندما يتذكرونها يضحكون ، فمثلا خلال أول ثلاث أيام من دوامنا العملي كطلاب ماتت مريضة في قسم النساء كانت المشرفة عليها طالبة زميلتنا ، فجلست تبكي عليها يومان كاملان ؟؟ فهل لو تكرر الحدث الآن معها ستبكي ، بالتأكيد لا؟ فهل عندها ستكون غير إنسانية؟؟ أيضا بالتأكيد لا؟
أما السبب أنها لن تبكي ، لان هناك فكرة إضافية أخرى ألا وهي تكرار المشهد الذي جعل الأمور عادية وأمات رهبة رؤية الميت؟ وعلى الأرجح سوف تتصل بالكفتيريا تطلب فنجانا من القهوة بعد إتمام واجبات تجهيز المتوفى والتوثيق، فهل لو فعلت ذلك تكون احتفلت بنقصان عدد المرضى لديها واحدا؟ لا ، بل لقالت : يرحمها الله "كل نفس ذائقة الموت".
آخرا ، دعوني أقص عليكم هذه القصتين الحقيقيتين على نفس الموضوع حصلت معي :
جاءني صديق وقريب في نفس الوقت ، ثم عرج بالحديث عن مستشفى الحكومة " الدولة " في منطقتنا - قد عملت به سابقا – وقال لي : البارحة أخذت ابنتي الصغيرة معي إلى قسم الطوارئ وكانت حرارتها مرتفعة ، ولما دخلنا على الطبيب قال : اذهب ودع التمريض يقيسوا حرارتها وأعطاني ورقة مسجل عليها الأمر ، فدخلت عليهم وكانت هناك ممرضة جالسة خلف الطاولة وتضحك مع صاحبتها الممرضة الأخرى ، وأعطيتها الورقة التي عليها أمر قياس الحرارة ، فقالت ضعها على أي سرير فارغ ، ففعلت ، ثم أتت ووضعت ميزان الحرارة ، وقالت يلزمه 3- 5 دقائق ، ثم عادت لصاحبتها حتى انتهاء الوقت اللازم للقياس وعادت للكلام والضحك معها ، يقول لي صاحبي : كنت أريد أن اذهب إليها واصفعها على وجهها وأقول لها : إذا لم تقومي بحق مهنتك الإنسانية فاتركي المهنة لغيرك؟
فقلت لماذا ؟ قال : لان مهنتها إنسانية فما كان يجب أن تضحك وأنا معي طفلتي وهي مريضة ، ثم أن هذا قسم طوارئ ، لازم تهتم أكثر ، لأنه مهنتها إنسانية (تكرار)!!
ثم أخذت اشرح له رأيي " السابق " وقلت أيضا له : ألم تقم بما يجب عليها ؟ قال : نعم ، قلت أكان ضحكها هستيريا أم عادي ، قال عادي ، قلت إذن ليس لك شيء عندها فهي قامت بما تمليه عليها المهنة ، ثم قلت له زيادة في الشرح : تخيل لو أنني وإياك نسير ثم حصل حادث أمامنا ، أنت ستتصرف بشكل مغاير لما سأتصرف به كممرض ؟
وكانت المصادفة العجيبة أننا خرجنا نتمشى معا ثم حصل حادث على بعد 300 متر منا ، حيث كانت دراجة شرطة سير يركب عليها شرطيان ، أرادت التجاوز عن سيارة مرسيدس امامهما ، لكن في لحظة التجاوز اخذ سائق المرسيدس نفس اتجاه تجاوزهما ، فاصطدمت مقدمة الدراجة بمؤخرة المرسيدس نتج عنه سقوط الشرطي الثاني الذي في الخلف عن الدراجة. هنا بعد 3 دقائق من الذهول والمراقبة توقف الجميع وتجمهر الناس ، وبدا صاحبي يركض عليهم صارخا : معي ممرض ... معي ممرض ؟؟
نهاية المشهد : أن الشرطي الذي سقط قام عن الأرض وبدأ ينظف ملابسه من التراب ، هذا كان أثناء ركض صاحبي باتجاههم صارخا .. ثم تحدثوا مع سائق المرسيدس وركبوا جميعا مركباتهم ومضوا ، ورجع صاحبي ، ولما تواجهنا وجه لوجه جلسنا نضحك : وقلت له أرأيت كيف تصرفت أنت وكيف تصرفت أنا، أنا رايته سقط ثم قام مباشرة ومشى بشكل طبيعي فترة معقولة وكان واضحا انه لم يتأذى كتقييم أولي ، أما أنت فقمت بما قمت به ، لأنك تتصرف كرجل الشارع العادي في مثل هذه الأمور ، وهكذا انتم تريدون الكادر الطبي أن يتصرف ، أي : إذا جاء مريضكم أن يركض عليه الأطباء والتمريض قائلين : يا حرام ... المسكين ... هاتوا .. شيلوا .. .، ( طبعا هناك أمور تستلزم السرعة يقيمها الكادر الطبي) .
القصة الثانية :
كنت اعمل في قسم العناية الحثيثة I ، وكان من ضمن المرضى مريض عمره 55 عاما مكث شهرا كاملا ، وكانت حالته انغلاق في الأمعاء INTESTINA BSTTIN ، وقد أجريت له عملية كان من نتائجها أن حول مجرى الإخراج إلى خاصرته بما يعرف بـ HSTMY ، وهذا يستلزم تغيير الكيس كلما امتلأ بالبراز ، كان الجميع يقوم بذلك "الممرضون" ولم أكن أقوم بزيادة عليهم اللهم أني كنت كلما ابتدأ شفتي أناديه بكنيته " أبو خالد" واجلس معه أحدثه ويحدثني ، يفيدني من تجاربه في الحياة وأفيده ، وإذا غيرت له الكيس ألبس مثل الأخريين كمامة ، لكن لا أظهر له تأففي ( وان النفس لتعاف ) ، وبعد شهر ناداني وكان يحاول أن يجد الكلمات المناسبة التي يبدأ بها كلامه ، فلم يستطع ، فقد غلبه البكاء فقال : أنت الوحيد الذي عاملتني كانسان ، وظل يبكي ... ثم قال أريد أن أخدمك بخدمه كجزاء لك ، هل تريد أن تعمل في الخليج براتب مغري ، أنا أولادي يعملون في الكويت والسعودية ولهم مناصب في أماكنهم ، ويمكنهم تدبير وضعك ، فقلت : أرايت أني خصصتك بعاملة مميزة دون الآخرين في القسم ، لا والله ، إنما هذا طبعي وخلقي وإنسانيتي ، ولا انتظر أجرا.
صاحب المقالة : ممرض قانوني : ياسر البلوي – أبو يزيد – مستشفى الأمير فيصل بن الحسين
نشرت باسم صاحبها " ياسر البلوي " بموقع التمريض للجميع بتاريخ 20-5-2005
http:www.nsing4a.mfmshwthead.php
لا تتعجل واقرأ؟
الطب والتمريض ليست مهن إنسانية ..!!؟
مقدمة ضرورية :
شاع كثيرا بين الناس بل وبين الكوادر الطبية أن الطب والتمريض هي مهن إنسانية ، وصار مألوفا أن تسمع مثل هذه العبارات : أنت مهنتك إنسانية ، ويجب عليك أن ... ، مفروض أن تقوم بكذا أو تعمل كذا لان مهنتك إنسانية ... ، أو يخبر عن موقف حصل معه في مستشفى فيقول : لما أتيت له وأنا احمل طفلي لم يقم فورا ، حتى انه قال ضعه على السرير وبكل برود قام يفحصه ، ... يا رجل صدقني أن ثلثيهم ما عندهم إنسانية ... ؟
كان ما سبق مقدمة ضرورية لإنعاش ذاكرتكم مع المواقف التي ربما مرت بكم كعاملين في الحقل الطبي أو متابعين.
وصدقوني لو قلت لكم أن 90 % من المشاكل الحاصلة في المستشفيات سببها هذا المفهوم المغلوط .. والسبب ببساطة أن الطب والتمريض هي مهن ليست إنسانية ؟ كيف ؟ لا تتعجل واقرأ؟
ربما تبادر إلى ذهن كل من قرأ عنوان المقالة الاستنكار أو قال مجاوبا نفسه : لا ! ، بل الطب والتمريض مهنتين إنسانيتين ، وكان الأولى أن نتفق جميعا على تعريف مصطلح " إنسانية " ؟ ثم نبحث في المرحلة التالية عن هذا السؤال " هل أن الطب والتمريض مهن إنسانية؟ بناءا على التعريف الذي نصل إليه ، وهذا الأسلوب من أخطائنا الدارجة في النقاش ، مثل من يناقش صاحبه هل يوجد سعادة أو إنسان سعيد ، مع أن الأولى أن نبحث مفهوم السعادة ويتفق عليه الاثنين على الأقل ثم نبحث " هل يوجد سعادة أو إنسان سعيد ؟ " بناء على التعريف ، لا أن نجيب بنعم أو لا أو بين بين. دون اتفاق على تعريف مفهوم المصطلح محل النقاش.
وعودة إلى موضعنا محل النقاش لنحاول تعريف مصطلح " إنسانية " : ودعوني اطرح هذه الأسئلة للمحاولة إلى الوصول إلى إجابة متفق عليها ولو بالأغلبية:
إذا كان التمريض والطب مهن إنسانية ! فما هو حال رجال المطافئ ، أو الشرطة التي تحفظ النظام أو القضاة أو حتى سائق سيارة الإسعاف ، بل والخباز والمزارع ، ..... والقائمة طويلة. وقد يجيب أحدكم ، لا ، بل المقصود أنهم يتعاملون مع الإنسان في حالة ضعفه وحاجته أو حالة الحياة والموت ، والجواب على هذه المسالة : إذن ما نسمي رجال الدفاع المدني الذين يتعاملون مع الحدث في لحظة السخونة الأولى ، أو الشرطة الذين يكاد ينطبق عليهم الوصف في مثل ردع مجرم يتخذ رهينة مهددا بقتله؟
وقد يجيب البعض ولكن الطب والتمريض ملامس لنفس وجسد الإنسان أكثر من المهن الأخرى؟
وإذا كان جوابك مثل هذا ( أو بما معناه ) فأنت على الأقل تعترف أن هناك مهن أخرى تشاركك صفة الإنسانية - الغير معرفة ومحددة لحد الآن - ولو بدرجة اقل ، أليس كذلك ؟
ومهما حاولت أن توجد حالة يتفرد بها الطب والتمريض تستحق أن يطلق لأجلها صفة الإنسانية على مهنتي الطب والتمريض ستجد أن مهن أخرى قد تشترك بها ولو بدرجة ما؟
لذلك دعونا ننتقل لمحاولة تعريف الإنسانية :
الإنسانية برأيي هي : الخلق الطيب في التعامل واستحضار ظرف الطرف المقابل عند التعامل معه والتصرف على أساسه من منطلق كونه إنسان لا غير. والخلق الطيب في التعامل مثاله الأعلى سيدنا رسول الله (ص) ، ومن احد دلالات الخلق الطيب هي الالتفات بجسمك كله عند الحديث مع الشخص المقابل ، والإنصات الجيد ( يدخل في ذلك مهارات الاتصال ) ، أما استحضار ظرف الطرف المقابل عند التعامل معه فيكون مثلا إذا كان مفجوعا بميت أن تظهر له ( ولو تمثيلا ) ما يظهر تأثرك ، تماما كمن يذهب يعزي في ميت ، فهو ينتقي العبارات المناسبة ويظهر الجدية ، وليس مطلوبا منه أن يحزن؟ لان الجرح لا يؤلم إلا صاحبه. وعلى ما بين قوسين ( ولو تمثيلا ) ، قال الشاعر :
فتشبهوا بالكرام إن لم تكونوا ..... مثلهم ، إن التشبه بالكرام فلاح
الآن ، وبعد أن وضحنا مفهوم مصطلح الإنسانية ، دعونا ننتقل إلى الجزء الأخطر ، لماذا ليس التمريض والطب مهن إنسانية؟
السبب ببساطة لان المهنة بحد ذاتها لا توصف بأنها إنسانية أو غير إنسانية ، ذلك أن الإنسانية هي وصف للإنسان نفسه وليس للمهنة ، فالمهنة هي مهنة ليس غير ، لذلك يجب أن نقول : هذا طبيب إنساني أو ممرض إنساني، ونقصد أن تعامله إنساني ، والعكس صحيح . وهذا ينطبق على باقي الناس مهما اختلفت وظائفهم ومواقعهم ، فهذا الذي يعمل موظفا على حدود برية وتفهم حاجتي الملحة لإنجاز معاملتي بأقصى سرعة كوني يجب أن اصل في الوقت المحدد لمكان كذا وإلا فقد اخسر كذا ؟! ، هو إنساني لان تعامله إنساني ، والشرطي الذي اخذ الشكوى على محمل الجد وتفاعل معي هو إنساني ، وقس على ذلك.
ومن هنا ، لا يجب أن تقول لطبيب أو ممرض لم يعاملك بإنسانية انه يجب عليه كذا ، لان مهنته إنسانية ، كما بينا ، بل هو شخص غير إنساني بغض النظر عن مهنته ، لذلك ليس غريبا أن تجد طبيب سيئ الخلق أو ممرض سيئ الخلق ، فالمهنة بحد ذاتها لا توجد خلقا لدى من يعمل فيها ، حتى لو اقسم ألف يمين على فعل كذا وترك كذا ، بل الذي يوجد الإنسانية لديه هي مجموعة القيم التي يحملها كطبع في ذاته ، أو يتصنع بها كقول الشاعر السابق ذكره.
وانه وإن كان التصنع مقبولا فهو على وجهين؟ الأول : حسن خلق ، كاستحضار ظرف الطرف المقابل عند التعامل معه ، والثاني مصلحة : كمن كان سيئ التعامل كطبع به عندما كان طبيبا أو ممرضا في مستشفيات الدولة ، ثم إذا عمل في القطاع الخاص اصطنع حسن التعامل ، وهو لا شك يوما ما سيكتشف أمره فينطبق عليه قول الشاعر :
إذا رام التطبع نازعته ...... طبائعه إلى الخلق القديم
ولكن مع ذلك يعتبر التصنع محمودا وان كان مصلحة – والله اعلم بالنوايا-
وحتى لا يفهم الموضوع خطأ ، ألخص الفكرة كالتالي : الأمر يتعلق بتصحيح مفهوم ، أي مدى انطباق الصفة على الشيء ، أو عدم انطباقها ، بل ، وهل الصفة ملك هذا الشيء؟ أم ليست ملكه أصلا ، فالموضوع هو : الإنسانية صفة للإنسان وليست للمهنة ؟
ولا أقول " لا تكن إنسانيا " بل عكس هذا ما أحاول أن أثبته ، أي : أنت إنساني لأنك أنت ،لا لأنك طبيب ، ولا لأنك ممرض ، بل لأنك أنت كانسان في جميع الظروف وفي كل المهن ، وأيضا لان دينك يطلب ذلك منك، قال صلى الله عليه وسلم " أقربكم مني يوم القيامة احاسنكم اخلاقا" ويقول صلى الله عليه وسلم " إنما الدين المعاملة" وهي صفة يا حبذا تكن في الطبيب أو الممرض كطبع فيه أو تخلق ( تصنع ) وهما بها أجدر وأجمل ، وانك إن أخذتها كصفة للمهنة ومضيت على ذلك ، وقبلت تصرف الآخرين معك على هذا النحو ، فثق انك ستصل إلى نقطة بعد ممارسة ليست بالطويلة إلى الهروب وربما التخلي عن هذه الصفة ، ذلك انه قد يدغدغ مشاعرنا ثناء الناس علينا بصفة المهنة الإنسانية أو ملائكة الرحمة؟
ولكن إن أنت عرفت حقيقتها وحقيقة العلاقة بين الإنسانية والمهنة ، فأنت غالبا ستتخذ جانب الإنسانية كصفة لك كانسان وستبقى معك للأبد خصوصا إذا عززتها بآخرتك وعلمت أن الكلمة الطيبة لك عليها اجر " تبسمك في وجه أخيك صدقة" ، - واتقوا النار ولو بشق تمرة - وإنني عندما طرحت هذا الموضوع ، لم اطرحه ترفا ، بل لأني رأيت انه خلق حاجزا بين المريض والكادر الطبي عموما أكثر منه فتح أبوابا.
فعندما يتوقع منك المريض بل أكثر من واحد معا ، أن تكون أكثر مما تستطيع بحكم أن مهنتك إنسانية، فان النتيجة ستكون عكسية تماما. فهم لن يتقبلوا منك إلا طريقة الناس العاديين البعيدين عن طبيعة المهنة ومشاهدها وظروفها والذين تحركهم اللهفة وتوقع التعامل كحنين الأم على طفلها؟
والتمريض مثلا قبل أن يصبحوا في مثل هذه المهنة عندما كانوا ما زالوا يحملون نفس ذلك المفهوم وتلك اللهفة قد مروا بتلك القصص التي عندما يتذكرونها يضحكون ، فمثلا خلال أول ثلاث أيام من دوامنا العملي كطلاب ماتت مريضة في قسم النساء كانت المشرفة عليها طالبة زميلتنا ، فجلست تبكي عليها يومان كاملان ؟؟ فهل لو تكرر الحدث الآن معها ستبكي ، بالتأكيد لا؟ فهل عندها ستكون غير إنسانية؟؟ أيضا بالتأكيد لا؟
أما السبب أنها لن تبكي ، لان هناك فكرة إضافية أخرى ألا وهي تكرار المشهد الذي جعل الأمور عادية وأمات رهبة رؤية الميت؟ وعلى الأرجح سوف تتصل بالكفتيريا تطلب فنجانا من القهوة بعد إتمام واجبات تجهيز المتوفى والتوثيق، فهل لو فعلت ذلك تكون احتفلت بنقصان عدد المرضى لديها واحدا؟ لا ، بل لقالت : يرحمها الله "كل نفس ذائقة الموت".
آخرا ، دعوني أقص عليكم هذه القصتين الحقيقيتين على نفس الموضوع حصلت معي :
جاءني صديق وقريب في نفس الوقت ، ثم عرج بالحديث عن مستشفى الحكومة " الدولة " في منطقتنا - قد عملت به سابقا – وقال لي : البارحة أخذت ابنتي الصغيرة معي إلى قسم الطوارئ وكانت حرارتها مرتفعة ، ولما دخلنا على الطبيب قال : اذهب ودع التمريض يقيسوا حرارتها وأعطاني ورقة مسجل عليها الأمر ، فدخلت عليهم وكانت هناك ممرضة جالسة خلف الطاولة وتضحك مع صاحبتها الممرضة الأخرى ، وأعطيتها الورقة التي عليها أمر قياس الحرارة ، فقالت ضعها على أي سرير فارغ ، ففعلت ، ثم أتت ووضعت ميزان الحرارة ، وقالت يلزمه 3- 5 دقائق ، ثم عادت لصاحبتها حتى انتهاء الوقت اللازم للقياس وعادت للكلام والضحك معها ، يقول لي صاحبي : كنت أريد أن اذهب إليها واصفعها على وجهها وأقول لها : إذا لم تقومي بحق مهنتك الإنسانية فاتركي المهنة لغيرك؟
فقلت لماذا ؟ قال : لان مهنتها إنسانية فما كان يجب أن تضحك وأنا معي طفلتي وهي مريضة ، ثم أن هذا قسم طوارئ ، لازم تهتم أكثر ، لأنه مهنتها إنسانية (تكرار)!!
ثم أخذت اشرح له رأيي " السابق " وقلت أيضا له : ألم تقم بما يجب عليها ؟ قال : نعم ، قلت أكان ضحكها هستيريا أم عادي ، قال عادي ، قلت إذن ليس لك شيء عندها فهي قامت بما تمليه عليها المهنة ، ثم قلت له زيادة في الشرح : تخيل لو أنني وإياك نسير ثم حصل حادث أمامنا ، أنت ستتصرف بشكل مغاير لما سأتصرف به كممرض ؟
وكانت المصادفة العجيبة أننا خرجنا نتمشى معا ثم حصل حادث على بعد 300 متر منا ، حيث كانت دراجة شرطة سير يركب عليها شرطيان ، أرادت التجاوز عن سيارة مرسيدس امامهما ، لكن في لحظة التجاوز اخذ سائق المرسيدس نفس اتجاه تجاوزهما ، فاصطدمت مقدمة الدراجة بمؤخرة المرسيدس نتج عنه سقوط الشرطي الثاني الذي في الخلف عن الدراجة. هنا بعد 3 دقائق من الذهول والمراقبة توقف الجميع وتجمهر الناس ، وبدا صاحبي يركض عليهم صارخا : معي ممرض ... معي ممرض ؟؟
نهاية المشهد : أن الشرطي الذي سقط قام عن الأرض وبدأ ينظف ملابسه من التراب ، هذا كان أثناء ركض صاحبي باتجاههم صارخا .. ثم تحدثوا مع سائق المرسيدس وركبوا جميعا مركباتهم ومضوا ، ورجع صاحبي ، ولما تواجهنا وجه لوجه جلسنا نضحك : وقلت له أرأيت كيف تصرفت أنت وكيف تصرفت أنا، أنا رايته سقط ثم قام مباشرة ومشى بشكل طبيعي فترة معقولة وكان واضحا انه لم يتأذى كتقييم أولي ، أما أنت فقمت بما قمت به ، لأنك تتصرف كرجل الشارع العادي في مثل هذه الأمور ، وهكذا انتم تريدون الكادر الطبي أن يتصرف ، أي : إذا جاء مريضكم أن يركض عليه الأطباء والتمريض قائلين : يا حرام ... المسكين ... هاتوا .. شيلوا .. .، ( طبعا هناك أمور تستلزم السرعة يقيمها الكادر الطبي) .
القصة الثانية :
كنت اعمل في قسم العناية الحثيثة I ، وكان من ضمن المرضى مريض عمره 55 عاما مكث شهرا كاملا ، وكانت حالته انغلاق في الأمعاء INTESTINA BSTTIN ، وقد أجريت له عملية كان من نتائجها أن حول مجرى الإخراج إلى خاصرته بما يعرف بـ HSTMY ، وهذا يستلزم تغيير الكيس كلما امتلأ بالبراز ، كان الجميع يقوم بذلك "الممرضون" ولم أكن أقوم بزيادة عليهم اللهم أني كنت كلما ابتدأ شفتي أناديه بكنيته " أبو خالد" واجلس معه أحدثه ويحدثني ، يفيدني من تجاربه في الحياة وأفيده ، وإذا غيرت له الكيس ألبس مثل الأخريين كمامة ، لكن لا أظهر له تأففي ( وان النفس لتعاف ) ، وبعد شهر ناداني وكان يحاول أن يجد الكلمات المناسبة التي يبدأ بها كلامه ، فلم يستطع ، فقد غلبه البكاء فقال : أنت الوحيد الذي عاملتني كانسان ، وظل يبكي ... ثم قال أريد أن أخدمك بخدمه كجزاء لك ، هل تريد أن تعمل في الخليج براتب مغري ، أنا أولادي يعملون في الكويت والسعودية ولهم مناصب في أماكنهم ، ويمكنهم تدبير وضعك ، فقلت : أرايت أني خصصتك بعاملة مميزة دون الآخرين في القسم ، لا والله ، إنما هذا طبعي وخلقي وإنسانيتي ، ولا انتظر أجرا.
صاحب المقالة : ممرض قانوني : ياسر البلوي – أبو يزيد – مستشفى الأمير فيصل بن الحسين
نشرت باسم صاحبها " ياسر البلوي " بموقع التمريض للجميع بتاريخ 20-5-2005
http:www.nsing4a.mfmshwthead.php